مجزرة الدجيل .. في وثائق محكمة الثورة العراقية
الباحث عبد الهادي معتوق الحاتم
يعتبر اختفاء فرد واحد قد يسبب أزمة حكومية تهدد بأوخم العواقب ، أما في العراق فنظراً لتوالي المحن والمذابح ، فقد أصبحت كوارث من هذا القبيل أموراً اعتيادية كنشرة الأنواء الجوية لا تثير أي اهتمام يذكر .
تعدّ مجزرة الدجيل من المجازر التي توقف أمام بشاعتها الزمن كثيراً ، ناهزت جرائم مجازر الصهاينة في دير ياسين وغزة وقانا وصبرا وشاتيلا ..
مجزرة تم فيها اعتقال 393 من الرجال فوق سن 19 عاماً و294 من النساء والأطفال توفي منهم أكثر من 40 معتقلاً في أثناء الاستجواب والاحتجاز وتم إعدام 96 رجلاً ، منهم 4 عن طريق الخطأ والاشتباه دون إدانة كاملة ، فضلاً عن 10 أطفال بين الحادية عشر والسابعة عشر ، وتم إعدامهم عقب بلوغهم ، فضلاً عن تجريف مساحة 250000 فدان .
في تموز من عام ١٩٨٢ تعرّض الطاغية المقبور صدام التكريتي إلى محاولة اغتيال في مدينة الدجيل ، لم يعرف الكثير عنها حينها لكن أهالي مدينة الدجيل وبلد المجاورة تحدثوا لمعارفهم عن عقوبات جماعية طالت المدينتين تراوحت ما بين عقوبة الأعدام الى السجن والحجز لمئات من العوائل وترحيلهم القسري إلى صحراء السماوة وتجريف البساتين في تلك المدينتين.
بعد سقوط النظام البعثي في العراق ، تمّ الحصول على وثائق وتسجيلات, ألقت الضوء على تفاصيل كانت خافية عن ما حدث لتلك البلدة بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها صدام في ذلك العام.
لقد ثبت كما جاء تقارير وقرارات الإدانة والإحالة وغيرها من أوراق المحكمة أن المتهمين الذين ذُكروا في عملية الدجيل أكثرهم من الفلاحين ، بعضهم قتل ، وآخرين سجنوا وأغلبية أُبعدوا مع عوائلهم عن قراهم وسيقوا إلى مجمعات قسرية في صحراء السماوة القاحلة وتم تجريف بساتينهم بل شمل التجريف بساتين بلد أيضاً (وسيتم التطرّق الى محنتها في مقال لاحق) .
أنهم كانوا أُناسا مسالمين لم يعثروا على أي قطعة سلاح ظاهرة أو مخبأة لديهم ، ولم يتبنوا العنف أو العصيان أو التمرّد بإستثناء القلّة التي وصفت بأنها لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة .
حسناً ! ما هو ذنب سكان تلك المجمعات يا ترى ؟! إنهم لم يشتركوا في “المؤامرة المزعومة ” وهذا أمر مؤكد ، وربما لم يسمعوا حتى بنبأ هذه المؤامرة … قد يكون السبب هو “تآمرهم على الحزب والثورة” كما جاء في تقارير جلاوزة النظام .. وهذا يعني أن النظام البعثي لم يكن يراعي ما يعرف بمبدأ (شخصية العقوبة) ، أي أن العقوبة يجب أن تنال شخص الفاعل وليس غيره ,رغم أن الدستور العراقي وقانون العقوبات قد أخذا بهذا المبدأ .. ولكن ليس هناك أسهل على صدام حسين من تعطيل الدستور والقوانين العقابية بجرة قلم ! وليس هناك ما يحمي هذا المواطن من بطش النظام وجلاوزته .
سنحاول مناقشة بعض وثائق الدجيل التي تحولت فيما بعد إلى القضية الأولى والجريمة الكبرى التي بسبب أُعدم رأس النظام المقبور .
ففي الكتاب الذي رفعه رئيس المخابرات برزان التكريتي إلى “الرئيس صدام ” يتضح فيه اشتراك حوالي ١٠ أشخاص فقط في محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس ، إذ ورد فيه :
” لاحقاً للتقرير المرفوع لسيادتكم بتاريخ ١١ تموز ١٩٨٢ فقد أمكن لهذه الدائرة التوصل إلى النتائج النهائية في قضية الاعتداء الآثم على حياة سيادتكم من خلال التدرج في تتبع وتقصي المعلومات عن المشتبه باشتراكهم في الحادث المذكور “… إذ اعترف برهان يعقوب مجيد أمامنا “بأنه في يوم الخميس ٨ تموز ١٩٨٢ كان قادماً لتوه من وحدته العسكرية ( في تكريت) فقد لاحظ أن المدخل إلى مدينة الدجيل مغلق بسبب وجود سيادتكم داخل المدينة…حينذاك اتجه إلى طريق البساتين وشاهد في طريقه المقبور كريم كاظم جعفر (مقتولا) والمقبور (حسين دحام سلطان) وهو مقتول أيضاً وكانا يحملان رشاشتين كلاشنكوف وهما يركضان .. حينذاك فقد دعي من قبلهما للالتحاق بهما بعد أن أعطياه مسدس نمرة ( ٨ ملم) واتجهوا فعلاً إلى البساتين ( بالذات بستان السادة) ومن هناك فقد بدأوا باطلاق النار على موكب سيادتكم وقد اشترك في الرمي كل من كريم كاظم جعفر وحسين دحام. (ثم يسرد الكتاب أسماء البقية إلى 10 أشخاص ، قتل خمسة منهم ، واعتقل اثنان وهرب ثلاثة) .
وقال صدام في كلمته التي ألقاها بعد الحادثة : “ما راح يكدرون يجاوبون إلا أنهم عملاء على عدد الأصابع ما يطلعون أكثر من اثنين ثلاثة ، أربعة ، خمسة عشرة لكن يظلون أبناء الدجيل .. تسعة وثلاثين ألف نسمة، هذوله كلهم مخلصين وكلهم مع الثورة …”.
إذن عدد (الخونة) بحسب وصفه المشتركين بالعملية لا يتجاوز عدد الأصابع ! فلماذا عمليات القتل والاعتقال والتهجير الذي طال الآلاف من العوائل ، وتجريف البساتين !!
وقد اشتمل قرار الإدانة والحكم اللذين صدرا بتأريخ ١٤ / ١٩٨٤: “تشكّلت محكمة الثورة بتاريخ ١٤ / ٦ / ١٩٨٤ برئاسة السيد عواد حمد البندر وعضوية العقيد الحقوقي داود سلمان شهاب والعقيد الحقوقي طارق هادي شكر وأصدرت باسم الشعب القرار الآتي : “”… استمعت المحكمة إلى إفادات المتهمين وبالتدقيق والمداولة تبيّن ما يلي : بتاريخ ٨/٧/٩٨٢ تم القبض على المتهمين كل من طالب عبد جواد …” العدد الكلي كان ١٤٥ اسماً ” لانتمائهم إلى حزب الدعوة العميل وممارستهم نشاطاً تخريبياً لصالح خدمة العدو الفارسي العنصري حليف الصهيونية والاستعمار عدو العروبة والإنسانية والاسلام وذلك بالتخطيط للقيام ببعض الأعمال التخريبية والإجرامية وتعرّضهم لموكب السيد الرئيس القائد (حفظه الله) بمنطقة الدجيل ….. , ومما تقدم تأيد للمحكمة بأن المتهمين أعلاه قد ارتكبوا فعلاً ينطبق وأحكام المادتين ١٥٦ و ٧٥ /٢ وبدلالة المواد ٤٩ و ٥٠ و ٥٣ من ق. ع. تقرر ادانتهم بموجبها وتحديد عقوبتهم بمقتضاها. قرار صدر باتفاق الآراء وافهم علنا في ١٤ / ٦ / ١٩٨٤
محكمة من ورق : ومن الأمور التي تلفت النظر كثرة التناقضات والغرائب والعجائب التي وردت في أثناء المحاكمة ، ومنها :
1 – الملاحظ على قرار الأدانة انّه أدان ١٤٥ شخصاً في حين أن قرار الإحالة كان قد أحال ١٤٨ شخصاً .
2 – قصر المدة التي حسمت فيها القضية التي أحيل فيها 148 معتقلا بعدة أيام (16 يوم) على حد اعتراف جلادها الأول (المجرم عواد البندر)، هي المثال الأبشع في تأريخ القضاء العالمي، والأنكى من ذلك كله أن عدداً كبيراً من المحالين في تلك القضية كانوا أطفالا ومنهم مقتولون أثناء التعذيب في غرف المخابرات .
3 – اختفاء المتهمين .. فالمحكمة التي قيل إنها اشترطت العلانية ، ولم يسمع أي من العراقيين بموعد جلسة من جلساتها وأين تشكلت ومن هم قضاتها ؟ وما هي درجة رئيسها في سلم ترتيب القضاة المعروف ؟ وهل حضر المتهمون فعلا (الذين لا يمكن أن يسعهم قفص اتهام ولا قاعة محكمة) وهل دققت هوياتهم وأعمارهم، واستمعت لافادات كل واحد منهم ومطابقة تلك الافادات مع الأدلة المتوفرة لدى المحكمة ..؟
4 – ومن عجائب القضاء والقدر إعدام ميت، إذ تبين فيما بعد قضية الدجيل بأن عددا ممن حكم عليهم بالإعدام، قد أحيل إلى المحكمة بعد قتله أما في التعذيب أو أثناء اقتحام بلدة الدجيل، والأعجب من ذلك كله هو أين جثث المعدومين المائة وثمانية وأربعين؟!!
5 – حسب الصيغة التي كتب بها قرار الإدانة : “أن المحكمة تشكلت يوم ١٤ /٦ / ١٩٨٤ واستمعت إلى إفادات المتهمين” أي أن المحكمة استمعت إلى إفادات ١٤٥ – ١٤٧ شخصاً في يوم واحد ؟ فما هو الوقت الذي منح لكل شخص لسماع إفادته؟ الأدهى أن هذه القضية لم تكن الوحيدة على جدول المحكمة ذلك اليوم ، بل كانت واحدة من ستة قضايا !!
وبعد حوالي تسعة أشهر من صدور المرسوم الجمهوري صدر أمر من قبل ديوان الرئاسة بالعدد ق/٣/٥/ رقم ٨٣٦٤ بتأريخ ١٦ / ٣ ١٩٨٥م بتنفيذ حكم الإعدام بحقهم على الفور وعلى ضوئه صدر كتاب من جهاز المخابرات بالعدد م ش ١ /١٢٥٣ بتاريخ ٢٥ / ٣ / ١٩٨٥ إلى قسم الأحكام الطويلة ورد فيه : استناداً للمرسوم الجمهوري المرقم ٧٧٨ لسنة ١٩٨٤ بتنفيذ حكم الإعدام شنقاً حتى الموت بالمدانين المدرجة أسماؤهم أدناه والبالغ عددهم ١٤٨ مدانا, لذا نسيرهم بصحبة مأمورنا..راجين اتخاذ ما يلزم بصدد تنفيذ حكم الإعدام بهم فوراً واعلامنا.
وبتاريخ ٢٣ / ٣ / ١٩٨٥تم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً حتى الموت حسب كتاب قسم الأحكام الطويلة بـ ١٤٨ شخصاً من الدجيل. واصدرت شهادات وفاة لكل منهم.
أين الحقيقة ؟ من يقرأ هذه الوثائق يعتقد أنه تم إدانة ١٤٥ شخصاً لكن الحكم أصدر بحق ١٤٧ شخصاً ، ثم تمت المصادقة على الحكم بحق ١٤٨ شخصاً تم إرسالهم من جهاز المخابرات إلى قسم الأحكام الطويلة بصحبة مأمور من المخابرات ونفذ حكم الأعدام بـ ١٤٨ شخصاً ، وتحقق الطبيب الذي وقع على شهادة الوفاة من وفاة ١٤٨ شخصاً, لكن الحقيقة كانت غير ذلك كما اكتشفت السلطة بنفسها ذلك.
ففي عام ١٩٨٧ أي بعد سنتين من تنفيذ حكم الأعدام بـ ١٤٨ من الدجيل اكتشفت السلطة أن اثنين من المحكومين بالإعدام والمفترض أنهم متوفيان ، إذ نفّذ بهما حكم الإعدام وتحقق الطبيب من وفاتهما كانا لا يزالان على قيد الحياة.
ورد ذلك في كتاب جهاز المخابرات المرقم م.ك /٦١٧ /ش ١ /١٢٨٢ بتأريخ ٣/ ٣ / ١٩٨٧ عن حادثة الدجيل.
كل هذه الاختلافات في الأسماء ما بين قرار الإحالة والإدانة والحكم تثير سؤالاً منطقياً هل جرت فعلاً محاكمة هولاء ومثلوا أمام محكمة الثورة كما ورد في قرار الحكم وإنهم اعترفوا أمام المحكمة أم أن المحاكمة كانت محاكمة على الورق ؟؟