مجزرة سبايكر وجع عراقي لا ينسى
أ.د. حسين الزيادي
جامعة ذي قار
في الثاني عشر من حزيران ارتقت إلى السماء معطرة بدم الشهادة أرواح أكثر من 2000 شاب من أبناء العراق على يد أعتى عصابات الإجرام الغادرة، عندما تمكّن الفكر المتطرف , وبقدرة عالية من توظيف حقده الدفين , وخزينه الاجرامي , وبشاعته الدنيئة وقراءاته المنحرفة للتاريخ والنصوص الدينية، فكانت مجزرة العصر التي لامست بحزنها شغاف قلوب العراقيين وهزّت ضمير الإنسانية، سبايكر ذلك الحدث المضمخ بالدم العراقي الأصيل، المُثقل بكل جراحات التأريخ وآلامه، طعنةً في الجنب ووجعاً لا يهدأ وألماً لا يطاق، شباب بعمر الورد امتزجت دمائهم مع مياه النهر بـلا وداعٍ سِـوى صـيْـحاتِ قاتليهم وأزيز الرصاص ورائحة البارود، دماء استبيحت ظلماً وعدوانا فامتزجت بنهر العطاء وهم يعانقونه شهداء أبرار رحلوا إلى جوار الرفيق الأعلى وإلى فسيح جنانه ليكون شاهداً ابديا على خسة ودناءة قاتليهم، فأعطاهم الله الذلة والمهانة وأعطى شهدائنا النصر والعزة والشموخ والكرامة.
تبنّى التطرف فكرة التعصب للجماعة التي ينتمي إليها ؛ لأنَّه حالة من الكراهية تتسمُ بالجمود , وعدم المرونة يعبر صاحبها بكره موجه إلى جماعة بأكملها او فرد يمثل هذه الجماعة ، والمتطرفون هم الأكثر ميولاً إلى تبني نظرية التعصب والانغلاق العقلي والجمود الفكري وتعطيل القدرات الذهنية، ومن هنا فالتطرف دائماً يرتبط بالتدهور الثقافي والفكري والعلمي ؛لأنه قتل للإنسان بوصفه كائناً مبدعاً، وأيضاً يمثل التطرف دائماً حنيناً إلى الماضي والعودة إلى الوراء، فينتج عن ذلك سلوكا إجراميا كان ومازال على امتداد التأريخ شاغلا لأذهان الناس والمجتمعات ، وواحدا من أبرز المشكلات التي عانى منها المجتمع الإنساني ودفع ثمنا باهضا لها عبر حقبه التاريخية ؛ لذا حظيت الجريمة بمرتبة متقدمة من اهتمام الشرائع المقدسة والفلاسفة والمفكرين والمصلحين بحثاً عن تقليل آثارها وردع نوازعها ورغبة في إقامة دولة الأمن والعدل، وتعدُّ جريمة القتل العمد في منظور الفكر المتطرف من أهون الجرائم وأسهلها وأكثرها انتشاراً ، وهذا دليل واضح على البعد الحقيقي عن مضامين الإسلام وتعاليمه ، فجريمة القتل العمد من أشنع الجرائم التي حذر الإسلام منها، وشدّد في النهي عنها ، وهي من أبرز الموبقات والمهلكات التي شملتها آيات الترهيب والوعيد بالنار وخلود فيها فقال عز وجل (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، فتوعّد اللهُ القاتلَ في هذه الآية بخمس عقوبات هي: (دخول النار ـ الخلود فيها ـ استحقاق غضب الله ـ ونزول اللعنة ـ وفوق كل ذلك العذاب العظيم وقال تعالى في جانب آخر:(مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ)
إنَّ المسؤولية الشرعية ، والقانونية ، والأخلاقية تحتم علينا أن ننصفَ دموع أمهات الشهداء ، وأن نعيد لهن الحق المغتصب وأن واجب كل الأقلام الوطنية والمؤسسات الإعلامية أن تدون وتوثق وتؤرشف وتخلد لهذا الحدث الجلل، الذي يضاهي مجزرة الأرمن وما جرى في البوسنة والهرسك، ليعرف العالم الثمن الذي دفعناهُ في الحرب ضد التطرف، اما الصمت وتمييع القضية، فهي نكسة مخزية لا تتغاضى عنها الأجيال القادمة وهي خيانة للدماء الزاكية ، فهذه الحكومة الألمانية تعقد مؤتمراً دولياً عن مجزرة سبايكر شارك فيه نخبة من الشخصيات السياسية بينما تهمل المجزرة في العراق تمهيداً لنسيانها، ولم يتم القصاص للآن من جميع القتلة وهناك قصوراً في تتبعهم، وللأسف استغلت المجزرة من قبل البعض للحصول على المنافع والمزايا والأصوات الانتخابية.
وقبل هذا وذاك علينا أن نشخّص المسؤول والفاعل والتابع والشريك ومن أخطأ وأهمل وقصّر وتعدى؛ لأن هذه المذبحة لم تكن حدثاً عابراً لعبت الصدفة دوراً في حدوثه ، بل لا بد أن يكون هناك من اخطأ او قصر او تعمد سواء كان من القيادات العليا او الاقل، فمن حقنا أن نتساءل :لماذا يذهب هذا العدد الكبير من الشباب إلى مكان تفوح منه عفونة الإرهاب والتطرف؟ من الذي سمح بخروجهم من المعسكر؟ أين كانت القيادات؟ ألم تكن هناك توجيهات وتعليمات سابقة والموصل في وقتها كانت بين فكي الإرهاب؟ على القيادات المتصدية للمسؤولية أن توضّح بجلاء للشعب العراقي ملابسات الفاجعة الأليمة وأن يضعوا النقاط على الحروف ، وعلينا جميعاً أن نعترفَ أن هناك جهوداً لم تبذل بعد لحسم ملف المجزرة وضمان حقوق عوائل الشهداء والمفقودين.
التعامل مع ملف سبايكر ليس سهلا علينا أن ننصف دماء الشهداء أولاً ، وهذا الهدف الأسمى والأهم ، وعلينا في الوقت نفسه أن نقطع الطريق لمن يريد أن يبث الطائفية ويقتتات من خلالها، فالإرهاب لادين له ولا عشيرة ولا محافظة ولا منطقة فهو فكر دخيل ، والإجرام ظاهرة تعبر عن انحراف إنساني لا ينتمي له احد ، وعلى أهالي المنطقة التي وقعت فيها المجزرة أن يتبرأوا من الجريمة ومرتكبيها ومن رضي بها ومهد لها وبشكل علني ليبرهنوا على استنكارهم لهذه الفعلة الشنيعة التي لا تليق بمن يدعي العروبة والاسلام والانسانية، وعليهم أن يثبتوا أن للعراقيين تاريخا نضاليا ناصعا في هزيمة الأفكار الشاذة والمنحرفة والمتطرفة.