ataba_head

المقابرُ الجماعيّةُ إرثُ الأنظمةِ الدكتاتوريةِ والعصاباتِ الإجراميةِ

المقابر الجماعية إرث الأنظمة الدكتاتورية والعصابات الإجرامية

الباحث : عبد الهادي معتوق الحاتم

 

 

 

 

تحلُّ علينا في السادس عشر من هذا الشهر ذكرى اليوم الوطني للمقابر الجماعية في العراق ، وقد احتفلَ العراقيونَ لأول مرة بهذه المناسبة في 16 آيار 2007 بعد أن أقرَّ مجلس الوزراء بضرورة اعتبار هذا اليوم من كلّ سنة يوماً وطنياً للمقابر الجماعية في العراق , وهو اليوم الذي اكتشفت فيه أكبر مقبرة لضحايا النظام المباد في (المحاويل) بعد سقوط النظام الصدامي البعثي في 9 نيسان 2003 .

 

 وتكمن أهمية هذا اليوم في أنّنا سوف نستذكرُ فيه هذه الجريمة الكبرى ومظلومية ضحايانا , والخسارة الكبيرة التي أحاقت ببلدنا بسبب ممارسات حفنة من المجرمين البعثيين الذين اختطفوا إرادة الشعب العراقي طيلة ثلاثة عقود عجاف، فأهانوا كرامته واختطفوا حريته وحولوا العراق إلى سجن كبير تعطلت فيه الحياةُ بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والإقتصادية ..

 

 

هل سيستطيع التأريخ أن ينسى سجلَّ كلّ عنف وقمع اقترفه هذا النظام ضد أبناء شعبه ، وهل سينسى المشاهد المفجعة للقصف الكيماوي على حلبجة؟ هل يمكن للتاريخ أن ينسى الذكرى المريرة لاكتشاف مئات المقابر الجماعية التي كان يقطنها الآلاف؟ لا ، التاريخ لن ينسى إطلاقا ؛  لأنَّ الأمةَ المظلومة في العراق ، بعد أن تحرّرت من نير حكم صدام حسين المباد ، الذي دام أكثر من ثلاثين عاما من الاستبداد ، وجد فرصة للبكاء أكثر مما أتيحت له الفرصة للفرح والبهجة. البكاء الجماعي على مقابر جماعية على الآباء المفقودين الذين لم يتم العثور على آثارهم بعد في سجون صدام المروعة منذ عقود.

الشباب الذين حُكِمَ عليهم بالإعدام والدفن في مقابر البعث الجماعية , لا لذنب اقترفوه سوى معارضتهم لسياسة  البعث المباد .

في هذه الفترات المظلمة من التاريخ العراقي ، تشتت مئات الآلاف من العائلات ، وسُوِّيت بعضها بالأرض ، وسُجن بعضهم لسنوات في سجون سرية للنظام البعثي ، وأصبح اختفاء الأفراد سرا من أسرار النظام.

حتى الآن ، تم اكتشاف مئات المقابر الجماعية في الأراضي العراقية التي تحوّلت إلى  أرض المقابر الجماعية ..

لا نهاية لقصة حزن ومعاناة هذه الأمة … العراق يبكي ويبكي بكل ما في هذه الكلمة من معنى. كل أسرة تعيش في العراق لديها سجل حافل بجراحها وقصص كثيرة ترويها.

من قصة طفلة صغيرة ولدت في السجن وهي تتعرف على مصير والديها الشهيدين في سن الحادية والعشرين ، إلى قصة والد يبحثُ عن ابنه المفقود ، وجريمته الوحيدة كتابة شعار ضد الحكومة ، “لقد كان على جدار الفصل ، إنهم يقلبون كل شيء رأساً على عقب.”

قال سجين عُثر عليه في زنزانة بعثية إن مسؤول السجن دعا كل سجين باسم حيوان وطلب منه تقليد صوت الحيوان ، وإذا فشل ذلك الشخص لم يستطع. وتعرض لتعذيب شديد ، مثل الجلد والصعق الكهربائي.

عندما وصل نيلسون مانديلا إلى رئاسة جنوب إفريقيا بعد أربعة عقود من النضال والسجن وانهيار نظام الفصل العنصري ، قال جملة جعلت اسمه في ذهنه: “يمكنني أن أسامح ، لكنني لن أنسى.”

السؤال هو هل يستطيع الشعب العراقي أن ينسى كل هذه الجرائم , ومع ذلك  فإنَّ جرائم نظام الفصل العنصري لا يمكن مقارنتها بجرائم نظام صدام.

لقد طبّق البعثُ مفهومَ إرهاب الددولة فقط ، فمنذ دخوله العراق مطلع ستينات القرن الماضي ، وهو يسلك الإرهاب  طريقاً له ، فيقتل من الناس كل من يختلف معه ، أو كلّ من يشتبه به عدوّاً له ، حتى قبض على السلطة بانقلاب دموي أسود في (8/ شباط/1963) اليوم الذي سالت فيه دماءُ العراقيين والعراقيات في شوارع بغداد وشوارع المدن العراقية الأخرى ، دون أن تهتزَّ في جلد العالم الحر شعرة !

ولم تنفك قبضة (البعث) عن السلطة ، إلا بعد أربعين عاما من القهر والاضطهاد المر ، وإرهاب الدولة المنظم ، حينما أُجبر على ذلك بالقوة ، فانسحب إلى الخلف في نيسان عام 2003 ليمارس أبشع أساليب العنف المنظم ضد العراقيين ومؤسساتهم الوطنية ، كاشفاً عن مكنونه الارهابي بطريقة سافرة ، متحالفاً مع أكثر المنظمات الارهابية دموية في العالم ، ممولاً ومدعوماً من دول ، كانت حتى الأمس على خلاف معه ، آوته وسلحته ودفعت به لعرقلة التغيير الديمقراطي الذي تخشاه ، فقتل الاطفال في مدارسهم ، والعمال في مصانعهم ، والكسبة في اسواقهم ، والمثقفين في ميادينهم ، وقطع الطرق بين الاخوة وإخوانهم ، لا فرق لديه بين مسجد أو كنيسة ، بين مرقد مقدّس أو سوق للخضار ، مضيفاً مقابر جماعية لمقابره الجماعية القديمة التي لم ينته العراقيون من إحصائها بعد .

 

 

وقد تميّزت المقابر الجماعية في العراق على أنها مواقع لا تحملُ علامات مميزة تحتوي على ما لا يقل عن ست جثث, ويمكنُ تحديدها ببعض من أكوام التراب مكدسة فوق سطح الأرض أو في الحفر العميقة التي يبدو أنها قد تم شغلها, وبعض القبور القديمة هي أكثر ما يصعب تحديدها , بعد أن تغطيها النباتات والحطام على مر الزمن.

إنَّ المقابر الجماعية شكل صارخ من أشكال التطهير العرقي والإبادة الجماعية مورس بحق الشعب العراقي في الفترة المظلمة من حكم البعث، وقد أثبتت وسائل الإعلام المحلية والعالمية ولجان منظمات حقوق الإنسان ذلك ، وأن الأرشيف العراقي يزخر بكل تلك الأدلة التي تدين الجاني وتثبت الجريمة ، التي ترفضها قوانين منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان واللجان التي تهتم بها ، كاللجان التابعة لوزارة حقوق الانسان في العراق ، ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أو الإتحاد الأوربي ومنظمة العفو الدولية ، ناهيك من أنها ووفق المادتين السادسة والسابعة من قانون العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صدر عن الجمعية العمومية لمجلس الأمن في سنة 1966 يجرِّم الفاعلين دولياً فهي نوع من سلب الحياة للأفراد والجماعات وإخضاعهم إلى التعذيب والإهانة بدون مسوغ قانوني ؛ لذا أرى من الواجب في هذا اليوم التذكر بالأمور التالية ، إكراماً لأصحاب الذكرى :

1- العمل على تفعيل دور اللجنة العليا للمقابر الجماعية ، والعمل على تشكيل لجنة خاصة للبحث عن المقابر الجماعية ، خصوصاً بعد ضياع الكثير من المقابر الجماعية الموجودة قريبة من ضواحي المدن بسبب التوسع العمراني ، وهذا يعني ضياع معالم جرائم تلك المقابر وتوفير فرصة للجناة الإفلات من قبضة المسائلة والعدالة .

2- العمل على فتح ملف قضائي لجناة جرائم المقابر الجماعية ، بدل من تركهم أحرار ، وقد أثبت الواقع السياسي الذي نعيشه أن الكثير من هؤلاء الجناة الذين اشتركوا في هذه الجريمة قد عادوا الى وظائفهم ، بل أن بعضهم يتقلدون مناصب عليا في الدولة ، وهذا يشكل استخفاف بالدم العراقي وبالظلم الذي وقع على الضحايا وذويهم .

3- العمل على إنجاز مشاريع تخدم الضحايا وذويهم من قبيل الاهتمام بالمقابر الجماعية من إقامة متحف لمقتنيات الضحايا أو إقامة نصب تذكارية ، أو تسييج هذه المقابر وغيرها .

4- إن تفعيل لجان المقابر الجماعية ، واقامة المعارض في داخل الوطن وخارجه سيؤدي إلى الاهتمام العالمي بذوي الضحايا وعدم حرمانهم من المنح الكبيرة التي تقدمها الكثير من الجمعيات والمؤسسات الخيرية الدولية والتي تهتم تحديدا ًبضحايا الحروب والمتضررين من الأنظمة الديكتاتورية أو الكوارث الطبيعية ، فضحايا البوسنة والهرسك وذويهم يستلمون أموالاً طائلة من منظمات الاتحاد الأوربي بسبب وجود جهات فاعلة تدافع عن حقوق الضحايا وذويهم وهذا ما لم يتوفر في العراق .

5- في حالة الاستمرار في تهميش هذه القضية ، فإنَّها سوف تتعرضُ للطمس والنسيان وهذا ما يعمل من أجله أعداء الشعب العراقي وخاصة الكتل السياسية التي لها علاقات بالنظام السابق والتي تحاول الضغط على الكتل الوطنية المتضررة من جرائم النظام المقبور ومساومتها على تحقيق هذا الهدف الخطير ، ولذا فإن على الأمة أن تنتبه لذلك وتقطع الطريق على من يسعى لتحقيق ذلك .

6 – تفعيل قانون حماية المقابر الجماعية رقم 5 لسنة 2006 ، من خلال :

أ : تسهيل مهمة البحث عن المقابر الجماعية التي اقترفها النظام البائد .

ب : إعادة رفات الشهداء الى ذويهم وبمراسيم تليق بتضحياتهم .

ج :  تنظم عملية فتح المقابر وفقاً للأحكام والقيم الإنسانية وحمايتها من العبث والنبش والتنقيب العشوائي .

د : التعرف على هويات الضحايا المدفونين فيها .

ه : المحافظة على أداة الجريمة وتقديمها الى القضاء لتسهيل مهمته لإثبات المسؤولية عن جرائم الابادة الجماعية والدفن غير الشرعي وغيرها منن الجرائم المرتكبة بحق الضحايا ,

وأخيراً ، نتمنى أن يكون هذا اليوم منطلقاً للتفكير الجدي في كيفية التعامل مع هذه الجريمة الكبرى ، إذ ليس من المعقول أن نبقى نجتر أحزاننا وآلامنا على ضحايانا ، أو نبقى نشجب ونستنكر تلك الممارسات البشعة ونلعن من مارسها ، بل أن هناك استحقاقات خطيرة تنطوي على ارتكاب مثل تلك الجرائم ، وهذا ما فعلته الأمم من قبلنا وعلينا أن نقلد على أقل تقدير تلك الأمم في إجراءاتها إزاء ضحاياها أو من ارتكب بحقها مثل تلك الجرائم .

وستبقى المقابر الجماعية , ودهاليز ومسالخ الأمن والمخابرات , بمقاصلها وحبال إعدامها وكل أدوات التعذيب فيها وصمة عار في جبين صدام وحزبه ومن يطبّل له ويزمّر .