ataba_head

نيسانُ 1980م الشّهرُ الأكثر سواداً في تأريخ العراق

علي المؤمن

باحث عراقي ، متخصص في الفكر السياسي المعاصر والشأن العراقي والجماعات الإسلامية
دكتوراه في القانون الدستوري

 

نيسانُ 1980م الشّهرُ الأكثر سواداً في تأريخ العراق

 

 

كان نيسان ۱۹۸۰ تجسیداً لمأساة العراق في زمن البعث، بالنظر للجرائم الكبرى التي ارتكبها نظام صدام حسين فيه، وهي جرائم لها وقع متميز في التاریخ العراقي، وسيظل العراقيون يعانون آثارها عقود طويلة، لأنها أدخلت العراق وشعبه ومعارضته مرحلة جديدة تماماً، کان فيها الدم العراقي أرخص من أي شيء آخر. *

قرار إعدام الإسلاميين ومن يروج لأفكارهم:

مهّد نظام البعث لمنعطف نيسان 1980، بإجراءت اعتبرها قانونية، لكي يستند الى مسوغ شكلي لعمليات الإبادة الجماعية ضد أعضاء الحركة الإسلامية، فقد أصدر قراراً فريداً من نوعه على المستويين التاريخي والجغرافي، يتمتع بقوة القانون، في 31 آذار 1980، يقضي بإعدام منتسبي حزب الدعوة والعاملين لتحقيق أهدافه تحت مختلف الواجهات والمسميات وبأثر رجعي، ووقّعه صدام حسين نفسه. وجاء في القرار: «لما كانت وقائع التحقيق والمحاكمات قد أثبتت بأدلة قاطعة أن حزب الدعوة هو حزب عميل مرتبط بالأجنبي وخائن لتربة الوطن والأهداف ومصالح الأمة العربية، ويسعى بشتى الوسائل إلى تقويض نظام حكم الشعب ومجابهة ثورة (17) تموز مجابهة مسلحة. لذا قرر مجلس قيادة الثورة تطبيق أحكام المادة (156) من قانون العقوبات بحق المنتسبين إلى الحزب المذكور أو العاملين لتحقيق أهدافه العميلة تحت واجهات أو مسميات أخرى. ينفّذ هذا القانون على الجرائم المرتكبة قبل صدوره والتي لم يصدر قرار بإحالتها إلى المحكمة المختصة». وعلى أثر هذا القرار، اعتقلت سلطات البعث عشرات الآلاف ممن يشتبه بأن لهم علاقة بحزب الدعوة، بل شملت إجراءات النظام كل من يشك بأن له ميولاً دينية، أو يمارس العبادات والشعائر الإسلامية بشكل علني ومنتظم، فسارت القوافل إلى منصات الإعدام، ومات الكثيرون تحت التعذيب

إعدام المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر:

قبل اعتقال المرجع المفكر السيد محمد باقر الصدر بأسابيع، ثم بالتزامن معه، اتخذ نظام البعث اجراءات احترازية مكثفة قاسية، من شأنها خنق ردود الفعل المحتملة تجاه اعتقال الصدر وإعدامه، للحيلولة دون تفجر الأوضاع في بغداد ومدن الفرات الأوسط والجنوب، وأهم تلك الإجراءت قص أجنحة الصدر وتدمير كيانه المرجعي وحوزته، عبر المجازر والاعتقالات العشوائية التي طالت عشرات الآلاف مــن أبناء حرکة الصدر ووکلائه و المقربين اليه، إضافة الى تفجير الوضع الاجتماعي عبر حملات التهجير الواسعة التي شملت آلاف العوائل العراقية والتي بدأت في اليوم السابق لاعتقال الصدر. كما أن 90% من تلامذة الصدر والمقربين منه وقادة التحرك الإسلامي، كانوا هم أيضاً بين معتقل أو معدوم أو متخف أو مهاجر خارج البلاد. وبعد اعتقال السيد الصدر في 6 نيسان 1980، تم نقله مباشرة الى الأقبية السرية لمديرية الأمن العام في بغداد، ثم الى القصر الرئاسي، وفيهما تعرض الإمام الصدر إلى صنوف التعذيب النفسي والجسدي ثلاثة أيام متتالية، بغية حمله على المساومة. وقد قام صدام حسين بنفسه بالتحقيق مع السيد الصدر والإشراف على تعذيبه. وبعد فشل كل محاولات المساومة، أقدم صدام حسين بنفسه في ليلة الثلاثاء 8 على 9 نيسان 1980 على تفريغ رصاصات مسدسه في قلب ورأس المرجع الديني السيد محمد باقر الصدر، ثم رشق برزان التكريتي (شقيق صدام) وشخص ثالث اسمه دحام أحمد العبد الطلقات القاتلة على جسده. وأكد شهود عيان، أهمهم السيد محمد صادق الصدر، الذي استلم جثمان ابن عمه السيد محمد باقر الصدر، وكذا الدفان الذي قام بعملية الدفن، بأن آثار التعذيب والحروق كانت بادية بقوة على جسد السيد الصدر وشعره ولحيته

حملات التهجير:

في 5 نيسان 1980، اليوم الذي سبق اعتقال الإمام الصدر، أعلن نظام البعث النفير العام في قوات الأمن والمخابرات والشرطة والجيش الشعبي ومنظمات حزب البعث وقوات حرس الحدود، لتنفيذ قراره بالتهجير القسري لما يقرب من مليون مواطن عراقي شيعي إلى إيران، وعلى دفعات. وقد اكتنفت عملية التهجير أبعاد كثيرة معقدة، على الصعد السياسية والتاريخية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية. فعلى الصعيد السياسي لعملية التهجير، كشف فاضل البراك، مدير الأمن العام حينها، عن حقيقة نوايا سلطة البعث، حين قال في مقابلة صحفية: «تسري إجراءات التسفير على أية عائلة إيرانية يثبت عدم ولائها للثورة ولتربة الوطن، حتى إذا كانت تحمل شهادة الجنسية العراقية. ومن هذه العوائل تلك التي كشفت الاعترافات والتحقيقات تعاونها ودعمها لمجرمي عصابة الدعوة». والحقيقة التي لم يخفها النظام، هي إنّ حملات التهجير، في بعدها السياسي، جاءت لإرباك الواقع الاجتماعي الشيعي العراقي، إضافة إلى تفريغ الحوزات العلمية الدينية، ولا سيما الحوزة الكبرى في النجف الأشرف، من علمائها وأساتذتها وطلبتها.

أما الشق الطائفي من البعد السياسي فإنه يتمثل في اقتصار التهجير على «الشيعة» العراقيين فقط، ولم يشمل الإيرانيين من الفرس والكرد السنّة والمسيحيين (الأرمن) والعرب الخوزستانيين. أما على المستوى القانوني لعملية التهجير، فقد ظهر أن 80% من المهجرين العراقيين يمتلكون الوثائق العراقية التالية: الجنسية، شهادة الجنسية، الهوية الشخصية، دفتر الخدمة العسكرية، هويات انتساب إلى الجمعية والمؤسسات التعليمية (الرسمية) والمهنية والصناعية والتجارية والاجتماعية، إجازات فتح المعامل والشركات والمكاتب، وثائق التخرج من المؤسسات التعليمية (الرسمية). كما أن 15% من المهجرين ممن لا يحملون الجنسية العراقية، سبق أن تقدّموا للحصول على الجنسية العراقية منذ العام 1959، ورغم أحرازهم شروط الجنسية، إلاّ أن أسباباً طائفية ظلت تحول دون تمتعهم بحق المواطنة (الرسمية)، أي أن 95% من المهجرين هم عراقيون بالولادة المضاعفة، ولغتهم الأم هي اللغة العربية، وكثير منهم ينتسبون إلى أسر عربية ودينية وعلمية معروفة. ثم بادر النظام إلى إصدار مجموعة من القرارات الغريبة التي تتعلق باستثناءات التهجير وحجز العسكريين والشباب وممتلكات المهجرين وغيرها، فوفق قرار وزارة الداخلية (العراقية) السري في 10 نيسان 1980، تم حجز الشباب (18 ـــ 28 سنة)، وكذلك العسكريين بمختلف الرتب، حيث بقي هؤلاء، ويبلغ عددهم (40) ألف شخص تقريباً، معتقلون في سجون النظام. * قرار تطليق المرأة من زوجها: استكمالاً لقرارات التهجير، أصدر صدام حسين في 15 نيسان 1981 قراره المرقم 474، وهو أغرب قرار تمييزي عنصري في العالم، يعمل على تمزيق الأسرة العراقية، ويحرم الأم من أولادها، إذ يقضي القرار بتطليق الزوج العراقي زوجته العراقية من أصل إيراني، وإن كانت هذه الزوجة تحمل الجنسية العراقية. هذا في جانب الترهيب، أما في جانب الترغيب، فإنّ الزوج سيُمنح مكافأة قدرها 2000 دينار إذا كان الزوج مدنياً، و4000 دينار إذا كان عسكرياً، و ذلك وفق ثلاثة شروط: أن يتم الطلاق رسمياً، وأن يسلم الزوج زوجته المطلقة الى السلطات لتسفيرها الى إيران، وأن يتزوج الزوج العراقي الطليق من زوجة عراقية جديدة رسمياً. أما الأطفال، فإنهم يبقون مع أبيهم في العراق، بعد طلاق الزوجة وتسفيرها. ورغم أن عشرات آلاف العراقيين المتزوجين من عراقيات من أصل إيراني، لم يذعنوا للقرار، وأخفوا عقود زواجهم، بالرغم من خطورة ذلك على حياتهم ووظائفهم وحياة أسرهم، إلّا أن الحالات القليلة التي اضطر فيها بعض العراقيين، أو طمعوا في مبلغ المكافأة، الى تطليق زواجاتهم وتسليمهن الى السلطات لتسفيرهن الى إيران، تسببت في تمزيق هذه العوائل وحرمان الأولاد من أمهم، و انتحار بعض الأمهات أو إصابتهن بأمراض عقلية. * التحضير للحرب مع إيران: يمكن وصف شهر نيسان 1980 بأنه التاريخ الذي بدأ فيه نظام صدام بالاستعداد ميدانياً للهجوم العسكري على إيران، فخلال هذا الشهر هددت مصادر صحفية مقربة من نظام صدام بأن الأخير سيشن قريباً حرباً على إيران، كما هيّأ التصعيد الإعلامي والدعائي للنظام، الأجواء الرسمية للمطالبة بانسحاب ايران من الأراضي التي ضمت اليها وفق معاهدة الجزائر (1975)، ومن الجزر الثلاث المتنازع عليها مع دولة الإمارات. وبقدر تعلق الأمر بالعراق؛ فقد تسببت هذه الحرب، التي استمرت ثمان سنوات، في الحاق الدمار بالعراق وبشعبه وبجيشه، وأدت الى فقدان شباب العراق أرواحهم، والى ملايين الأيتام والأرامل، فضلاً عما تخللته من أعمال قمع وإعدامات واعتقالات لمئات آلاف العراقيين، وهروب ما لايقل عن مليوني عراقي الى خارج العراق، وذلك بسبب مغامرات صدام وجنون العظمة الذي ركبه وجعله يحلم باحتلال المنظقة، بدءاً بإيران.. ثم البلدان الأخرى. لقد وضع نظام صدام في نيسان 1980 حجر الأساس لتدمير العراق ودولته وسحق شعبه، وتفكيك بناه التحتية، وضرب نظامه الاجتماعي، وقتل مئات الآلاف من العراقيين في السجون والحروب الداخلية والخارجية، وتراكم الديون على العراق، وارتفاع نسب الأيتام والأرامل ارتفاعاً جنونياً، وصولاً الى انهيار الإقتصاد والعملة العراقية، وتصاعد معدلات الفقر والمرض، بشكل قلّ نظيره دولياً.