ataba_head

حقُّ الحياة وسلبه في القرآن الكريم

حقُّ الحياة وسلبه في القرآن الكريم

 

 

د.عباس القريشي

 

 

توجد مجموعة كبيرة من الحقوق نادى القرآن الكريم بها، منها: حق الحياة الذي يُعدُّ  في المنظور القرآني من الحقوق المهمة جداً، بل يقدم على جميع الحقوق الأُخرى لأنَّ لا وجود ولا تحقق لباقي الحقوق من دون بقاء الحياة وحفظها، والقرآن الكريم صريح في ذلك كما في قوله تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.

فالمعيارُ القرآنيُّ للإنسان على وفق القاعدة الكلية هي إكرام الإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن أي تخصيص كما جاء في  قوله تعالى:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ﴾، وأوضح مصاديق ذلك التكريم هو حفظ الحياة، ولا يتوهم المتوهمون بأنَّ القرآن خص ذلك بالمسلمين فقط؛ لأنَّ العموم والاطلاق الوارد في الآيتين في كلمتي (الناس، و بني آدم) غير مخصص بهم، بل يشمل المسلم وغيره.

نعم، هناك آيات قرآنية تناولت حكم من يقتل المؤمن متعمداً كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، وما ذلك إلا لحفظ المجتمع الإيماني من الإنهيار والتفكك الإجتماعي بسبب سفك الدماء.

والقرآن الكريم لم يُبِحْ قتال غير المسلمين إلا في حالات استثنائية كالدفاع عن النفس، أو الأرض، أو العرض، وعظّم جريمة قتل الإنسان ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ .

وهذا لا يختلف عن منطق العقلاء في ضرورة رد الاعتداء والدفاع عن النفس والأمور الواجب حفظها وإلا فالقرآن الكريم صريح في بيان حكم الإحسان والإنصاف من المسلم إلى غير المسلم، حيث يقول تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾، أي لا يمنع الله عز وجل المسلمين من التعامل الإنساني ومساعدة غير المسلمين ووصلهم بالمساعدات المالية مما يحتاجونه وكل سلوك يندرج تحت عنوان البر والقسط، والنبي الأكرم ترجم ذلك بصورة عملية من خلال تعايشه مع غير المسلمين في المدينة المنورة، كما أمر المسلمين بعدم التسبب  بالأذى لغير المسلمين، بل عَنِ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنَّه قال :” مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَد مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا”.

وقد وضع (صلى الله عليه وآله وسلم ) أُسس التعايش في مجتمع التعدديات الدينية والعقائدية من خلال وثيقته المشهورة بوثيقة المدينة المنورة، مع أقواله الكثيرة في ذلك، وقد يقال إنَّ هنالك مجموعة من الآيات تحث المسلمين على قتل غيرهم وإزهاق أرواحهم، والبحث يقول إنّها في مقام غير ماهو يتغنى به المتطرّفون وأعداء الإسلام، بل هي في مقام آخر كما سيبيّنه البحث لاحقاً إن شاء الله تعالى.

وباتضاح موقف القرآن الكريم اتجاه حق الحياة يمكن أن يتبادر إلى الأذهان مسوغ عقوبة إعدام الحياة في بعض الجرائم التي يرتكبها الجاني فإزهاق الأروح وقتلها ظلماً وعدوانا أو دون مسوغٍ شرعي هو أمر منهي عنه في القرآن الكريم، كما أسلفتُ ذكر بعض النصوص فالمشرع الحكيم عندما شرع القوانين والأحكام، وما تعلق بها من أجل صلاح المُشَرَّع لهم تلك التشريعات وإلا للزم خلاف حكمته، فكيف إذا كان ذلك المشرّع خالق الخلق وسيد الحكماء وهو الله عزَّ وجل، ولكن وقع كلام فيه شيء من الشبهات أثارها بعض المشككين، وتأثر بها بعض من المسلمين، من ذلك تشريعه عقوبة الإعدام هي ” إزهاق روح المحكوم عليه واستئصاله من المجتمع أو هو سلب المحكوم عليه حقه في الحياة”، الذي اقتضته بعض الجرائم.

حيث هناك من زعم قباحة عقوبة الإعدام بشكل عام؛ لأنَّها عقوبة قاسية جدا تخلو من القيم الإنسانية وتنافيها، فازهاق روح الإنسان لا تتقبله القيم الإنسانية الحديثة، ولا يمكن أنَّ يحكم به من له أدنى شيء من العقل فضلاً عمن يتصف بالحكمة والعدالة!، بل “إن الحكم بالاعدام يقطع الصلة الإنسانية والتضامن الإنساني ضد الموت، ولا يصبح لهذا الحكم أي شرعية”.

إذن هذه العقوبة لايمكنها النجاح في ردع الجرائم لدى النوع الإجرامي من الناس وإن نجحت في ردع بعضهم؛ لأنَّ المجرم قبل أن يرتكب جريمته لا يفكر بعقوبة الموت لوجود دوافع مختلفة قادته إلى ارتكاب الجريمة من دون الإلتفات للعقوبة المنتظرة، كما أنَّ الھدف من العقاب إصلاح المرتكب للجريمة، وليس إعدام حياته ونفيه من الوجود.

والثابت بشكل عام هو ندم الجاني بعد إرتكابه لجريمته، وهو يعطينا أملا كبيرا في أمكان إعادة تأهيل المجرم دمجه في المجتمع ليكون نافعاً، وهذا يقتضي قبول ندمه وتوبته، أما إذا تنبهنا إلى وقوع كثير من المتهمين الأبرياء كضحايا للعدالة والقانون لأسباب مختلفة فيحكم عليهم بعقوبة الإعدام كما يحدثنا التأريخ عنهم فالإشكالية أعظم وأعقد.

وقد يتبنى بعض الواهمين الإسلاميين الرافض لعقوبة الإعدام ويقول بأنَّ تشريع هذه العقوبة مخالفٌ لروح الإسلام التسامحية معللاً النصوص التي أقرّت القصاص من الجناة بأنَّها أحكام تدريجية مؤقتة، وأنَّها انتهت بانتهاء أمدها، وأصبحت لا تتناسب مع تطور الحياة في زماننا المعاصر.

ويدفع البحث ما أورده أولئك المعترضون بشكل موجز في القول: إنَّ قسوة العقوبة من جنس الجريمة ووحشيتها، ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ ﴾، فالعقل يحكم بأن الحكم العادل هو ماكان مساوياً للجريمة والجناية، فمن يرتكب جريمة قتلٍ عن علم وعمد مثلاً، فحكمه الأولي هو القصاص العادل وهو القتل، فلا قبح في ما لو كان رد الفعل مساويا للفعل، بل القانون الطبيعي يقتضيه، أما بالنسبة لندم المجرم عقب فعله للجريمة وقبل الحكم بالموت فهو أول الكلام، فالمجرم لولا وقوعه تحت طائلة المسائلة لما ندم على فعله كما هو في الغالب.

أما وقوع بعض المتهمين ممن لم يرتكبوا الجناية ضحايا للعدالة.  فإنَّ الخلل ليس في أصل التشريع وإنَّما في مَن أصدر العقوبة بحق المتهم البريء، وطبق القوانين بشكل خاطئ، ويمكن للإشكال نفسه أن يجري في عقوبة الحبس ونحوها من العقوبات التي يرومها المعترضون عوضاً عن عقوبة الإعدام! إذ هناك كثير ممن عوقب وحبس وهو لم يرتكب جريمة تستحق ذلك واقعاً، وإنما أُتهم باطلاً فهل يستلزم ذلك إلغاء أصل التشريع للعقوبات بشكل تام؟!.

أما خيار الحبس المؤبد كبديل عن الإعدام فهو حل غير ناجح؛ إذ فيه سلب لحق الحرية الذي لا يقل أهمية عن حق الحياة، وأما كونها غير ناجحة في ردع النوع الإجرامي فهو باطل؛ فالواقع يقرر غير ذلك فأصل تشريع العقوبات هو الردع وكلما كانت العقوبات أشد وأقسى كان الردع أسرع تحققاً، وعظم العقوبة يجعل الراغب بفعل جريمته يفكر كثيراً قبل إقدامه على جريمته.

أما كون العقوبة مخالفة لروح الإسلام التسامحية، فأنّه يمكن أن يقال إنَّ الشريعة الإسلامية فعلاً شريعة تحث على التسامح، ولكنها لم تفرضه بشكل قسري على جميع أتباعها؛ لأنَّ في ذلك ظلم وأجحاف لحق الآخر وهو ممنوع عقلا، نعم شجعت صاحب الحق على العفو عن حقه ووعدته بجزاءٍ أُخروي يتناسب مع ما عفى عنه وتنازل كما في قوله تعالى:﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ يـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾، كما أنّها وضعت شروطاً عديدة ليستحق المجرم بها عقوبة الإعدام أو الموت من قبيل:

  1. الأهلية الجنائية، التي تتحقق ببلوغ الجاني عمراً معيناً.
  2. أن يكون عاقلاً.
  3. يجب أن يكون غير مكره بمعنى أنّه فعل الجريمة بإختياره.
  4. أن يكون فعل الجناية بشكل عمدي وليس عن طريق الخطأ والاشتباه.
  5. أن يكون الجاني معتدياً وليس مدافعاً عن نفسه.
  6. أن تثبت الجريمة على الجاني بالدليل القطعي وليس بنحو الظن والشك.

ودعوى كونها أحكام مؤقتة ولا يناسب استمرارها، فهذه دعوى بلا دليل، بل الدليل قائم على خلاف ذلك، فالتشريعات المؤقتة قد نُسخت وعلم جميع المسلمين بنسخها في عهد النبي الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبالنسبة لتطور الحياة ومواكبة ذلك التطور فهو تلاعب بالألفاظ والإ فالقتل قتل والجناية جناية، وإنَّ غاية الشريعة من تشريعاتها بشكل عام وعقوبة الإعدام بنحوٍ خاص هو حماية النوع الإنساني وصلاحه من خلال صيانة حقوق الناس وحفظ كرامتهم وتطهير مجتمعاتهم من براثن الظلم والجريمة على وفق معايير شرعية وعقلية سليمة، فبمعاقبة المجرم يكون المجتمع بعيداً عن الفوضى والعبث بالدماء والأنفس، فإقامة عقوبة الإعدام على المرتد الفطري بعد إلزامه الدليل الساطع والبرهان الواضح يعدُّ حفظاً للـدين، والقصاص من القاتل حفظاً للنفس، وقتل الزانية المحصنة والزاني المحصن يكون درءاً للفاحشة و حفظا للنسب والنسل، وقتل الذي يكرر السرقة حفظاً لمال الناس، وغير ذلك من الجرائم التي عقوبتها الإعدام.

 

 

_____________________________________________

المصادر

  • القرآن الكريم
  • صحيح البخاري
  • العقوبة , محمود إبراهيم إسماعيل.
  • عقوبة الإعدام بين الابقاء والإلغاء , سالم الحاج ساسي
  • الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي, محمد أبو زهرة.