ataba_head

منهجيةُ توثيقِ جرائِمِ الأنفالِ فِي تقريرِ منظمةِ مراقبةِ حقوقِ الإنسانِ.

 

 

 

منهجيةُ توثيقِ جرائِمِ الأنفالِ فِي تقريرِ منظمةِ مراقبةِ حقوقِ الإنسانِ.

 

د. قيس ناصر راهي
باحث في قسم الدراسات السياسية والاستراتيجية
مركز دراسات البصرة والخليج العربي في جامعة البصرة

 

 

 

    إنَّ عملياتِ الأنفال واحدة من أكثر الجرائم دموية, التي ارتكبها نظامُ صدام في ثمانينيات القرن العشرين ضد الكورد في العراق , وتأتي ضمن سياق حملات الإبادة الجماعية .
 وعلى الرغم من أنَّ الجريمةَ قد ارتكبت في 1988م, إلا أنَّ التفكيرَ بأرشفتِها لم يتحقق إلا بعد انتفاضة 1991م, تحديداً بعد الحصول على وثائق المؤسسات الأمنية الصدامية ومقرات حزب البعث المقبور, وإن كانت الوثائق في المقرات البعثية أقل, مقارنة بما موجود في المؤسسات الأمنية في كوردستان العراق على الأقل .
       إن تقريرَ منظمة مراقبة حقوق الإنسان Human Rights Watch)) حول جريمة الانفال, تم إعدادُهُ في سنة 1993م, تحت عنوان (الإبادة الجماعية في العراق: جريمة الأنفال ضد الكورد), نتاجٌ لأكثر من عام ونصف من البحث ، قام خلالها فريق من الباحثين بتحليل عدة أطنان من الوثائق التي تمَّ الحصولُ عليها , فضلاً عن إجراء مقابلات ميدانية مع أكثر من 350 شاهد، معظمهم من الناجين من عمليات الأنفال , ومن نتائجِ التقرير أنَّ النّظامَ الصدامي قد ارتكبَ في عام 1988م جريمةَ إبادةٍ جماعيّةٍ, تتمثل بـالإعدام الجماعي, والتغييب لعشرات الآلاف من المدنيين, بما في ذلك أعداد كبيرة من النساء والأطفال , فضلاً عن إبادة قرى كاملة, وكل هذه الأعمال يتصدرها استخدامُ النظام الصدامي للأسلحة الكيميائية ضد مدينة حلبجة والعشرات من القرى الكوردية, إذ بلغ عدد القرى المدمرة كما مذكور في التقرير حوالي 2000 قرية فضلاً عن عشرات المدن والمراكز الإدارية من أقضية ونواحي, وتدمير المدارس والمساجد والمحطات الكهربائية, وهذا وصف مختصر جداً لما ارتكبه النظام الصدامي في جريمة الأنفال .
          أما عن المنهجية التي اعتمدها باحثو منظمة مراقبة حقوق الإنسان -التي هي موضع اهتمام المقال-, في دراسة هذه الجريمة وأرشفتها –سيكون هناك حديث عن الأرشيف الكوردي الذي يُقدر بأربعة ملايين صفحة, في مقال مستقل لاحقاً- فيمكن تلخيصها بالآتي :
1-تم إجراء البحث في الوثائق لأغراض حقوق الإنسان، فضلاً عن السعي لحث محكمة العدل الدولية لاعتبار الجريمة إبادة جماعية .
2- تكفل فريق من الباحثين بفرز الوثائق وفهرستها وتحليلها, وقد تم سحب الوثائق المهمة وتصويرها وترجمتها إلى الإنجليزية, وبعضها تم تضمينه في التقرير.
3-تم ارسال فريق في شهري آيار وحزيران 1992م, تألف من محققين جنائيين مُدربين في مجالات: أنثروبولوجيا الطب الشرعي ، وعلم الآثار، والقانون، وقد تم اتباع المعايير الدولية المنصوص عليها في بروتوكول الأمم المتحدة النموذجي للتحقيق القانوني.
4- كان دور فريق الآثاريين يتمثل بمسح القرية المُدمرة، ورسم خرائط لها, قريبة مما كانت عليه قبل التدمير باستخدام تقنيات المسح, ورسم خرائط لتنفيذ الجريمة وغيرها من الأمور .
 5- تمثّل دور الفريق الأنثروبولوجي الطبي باستخراج جثث الضحايا، باستخدام تقنيات استخراج الجثث القياسية للحفاظ على الهياكل العظمية, واجراء الفحص لتحديد الجنس والعمر وعلامات التعريف الأخرى, وطريقة الموت, فضلاً عن أخذ عينات من التربة وعينات أخرى لتربة تعرضت لأسلحة كيمائية, وإرسالها إلى أحد مختبرات الأسلحة الكيميائية التابع لوزارة الدفاع البريطانية, وكانت النتيجة اكتشاف نتائج تحلل غاز الخردل في عينات مأخوذة من هذه المواقع .
6-أجرى الفريق القانوني مقابلات مع شهود عيان, لتقديم وصف للأحداث التي أكدتها الأدلة العلمية, إذ تم أخد إفادات 350 شاهد عيان من الناجين, وهذه الإفادات شكلت فهماً لسلوك حكومة البعث, ودوراً مكملاً للوثائق التي تم الحصول عليها .
7- صمم فريق البحث استبياناً على أساس فهم الجريمة حينذاك، بهدف تسهيل الجدولة وتحديد كمية البيانات المتعلقة بالنزوح القسري وتغييب المواطنين, وكان الغرض من البحث هو معرفة أكبر قدر ممكن عن الأنفال وعن الأشخاص الذين اختفوا بعد انتهاء العملية, وكان الشهود حريصين على إخبار الفريق بما حدث, وقام الفريق بتسجيل معظم المقابلات على شرائط صوتية وأخذ صور توثيقية, وفي حالة المقابلات المهمة، تم أخذ الإذن من الناجين لتصويرها بفيديو .
أما عن أسئلة الاستبيان, فقد غطت المواضيع الآتية:
  • التاريخ الشخصي قبل الأنفال, مثل: الأحوال الشخصية، أفراد الأسرة، الممتلكات، المهنة والانتماءات الدينية والقبلية .
  • معلومات عن القرية التي كانوا يعيشون فيها قبل الأنفال, مثل: الموقع، عدد السكان، القبيلة، النشاط الاقتصادي، توافر الخدمات والمرافق الحكومية .
  • معلومات عن العمليات العسكرية في القرية وما حولها قبل الأنفال وسياسات الحكومة.
  • معلومات عن جرائم الأنفال, مثل: طبيعة الهجوم، ظروف الاعتقال ومساره، وظروف المعتقل، وصولاً الى الإفراج .
  • توثيق الأوضاع المعيشية بعد الأنفال .
         ومن الصعوبات التي واجهها واضعو التقرير, هي, التناقضات التي تظهر أحياناً بين شهادة وشهادة أخرى, نتيجة لارتفاع نسبة الأمية في ريف كوردستان، ولا سيما في تحديد التواريخ الدقيقة للأحداث، لكن بشكل عام, قد تم إثبات هذه التواريخ لاحقًا من خلال الوثائق التي تم الحصول عليها .
السطور أعلاه, ايجاز للمنهجية المعتمدة في أحد أبرز التقارير المهمة التي استخدمت في إدانة النظام السابق, بعد العثور على مجموعة الوثائق التي شكلّت الأرشيف الكوردي لاحقاً.