ataba_head

الإعلام والتطرف …إشكالية العلاقة (2)

الإعلام والتطرف …إشكالية العلاقة (2)

م. م. محمد جاسم محمد الخزاعي

العتبة العلوية المقدسة

 

يصفُ أحد الفيزيائيين قضيةَ السّبب والنتيجة بقوله : وجبة الفطور في بيتي هي عملية سببية، إذ يغلي الماء في الإبريق لأنني أدرتُ مفتاحَهُ الكهربائي، ويصير الخبزُ المحمص ذهبيَّ اللّون لأنني وضعته في المحمصة, أما الزبدة؛ فإنها تصلُ إلى الطّاولة لأنني نقلتها من الثلاجة, و مع كلِّ ما نرى في الكون من غرابة، فإن هذه حقائق نقبلها دون نقاش ,  فالماضي هو الماضي والحاضر يسبق المستقبل، والسبب يسبق النتيجة.

ومن هنا تتبلورُ مجموعةٌ من التساؤلات فيما يخصّ موضوع العلاقة بين الإعلام والتطرف , أي بمعنى هل كان الإعلامُ سبباً في انتشار التطرف _ نوعا ما _ من خلال الترويج لأفكار التطرف؟ وهل ترك الإعلامُ من خلال ما يقدمه تأثيراً في نشر ثقافة التطرف بين شرائح المجتمعات التي يستهدفها ؟

ولكن لا يخفى ما أسهم به الإعلام -وعلى الرغم من التوظيف السيئ الذي تعرَّض له- في كبريات المعارك التي خاضتها البشرية من أجل التقدم والتطور، ونشر الديمقراطية والعدالة الاجتماعية محليًّا وتثاقف الحضارات دوليًّا , إذ لا يمكنُ تجاهلُ ما للإعلام من دورٍ حيويٍّ في تكوين ثقافات المجتمعات الحديثة ؛ فما كان للعالم أن يتطورَ ويستمدَّ الحداثة لو لم يكتشف وسائل الاتصال الجماهيري من صحافة وتليفزيون وإنترنت مثلاً ؛ أما اليوم فإنَّ الإعلامَ وبفضلِ البث الفضائي وشبكة الإنترنت يعدُّ وعاءً للهوية الإنسانية , إلا أنَّ المشكلةَ التي نتحدثُ عنها تظهرُ في المجتمعات التي تشهد مخاضًا حداثيًّا وانتقالًا ديمقراطيًّا عسيرًا وانفتاحاً فوضوياً, إذ تحوّل جزءٌ من الإعلام فيها إلى سبب في انتشار التطرف ؛ فقد كانت عملية نشر الأفكار وتبادلها إعلاميًّا في الماضي القريب تسيرُ بشكلٍّ هرميٍّ أي سهلة الرقابة والتحكم ومسألة متاحة لنخبة محدودة ، أما اليوم وبعد التطور التقني الحاصل  تحوَّلت عمليةُ الاتصالِ والنّشر من عمليةٍ هرميةٍ إلى عملية شبكية، وأصبحت متاحةً لكلِّ من يرغب في نشرِ أفكارهِ، فضلاً عن كونها عنصرًا مهمّاً في عمليةِ التّنشئة الثقافية السياسية والإعلامية والاجتماعية للمجتمعات , وهذه الشبكية التي حصلت سبّبت إشكالاً في عملية السيطرة على المحتوى ؛ لذا ساهم الإعلامُ بشكلٍ أو بآخرَ في نشر ثقافة التّطرف بين شرائح بعض المجتمعات الهشّة فكرياً وثقافياً وإعلامياً , فإلى جانب الدور الإيجابي الذي مارسه الإعلامُ في بناء المجتمعات هناك دور سلبي يقومُ به الإعلام في تنمية الفكر المتطرف وزرع العنف بشكلٍ مباشر أو غير مباشر من خلال مساحة الحرية المطلقة التي منحها الإعلامُ في النشر والترويج , فضلاً عن اتباع سياسة التهويل والتضخيم لتحقيق الإثارة الصحفية أو الإقبال الجماهيري بغرض الربح المادي في ظل المنافسة الشرسة بين وسائل الإعلام العالمية , إلا أنَّ من أشدِّ ما تعاني منه وسائلُ الإعلام هو الافتقار إلى وجود الخبراء والمتخصصين في المجالات الأمنية والاجتماعية والنفسية والتربوية ؛ لإقناع المشاهد بخطورة التطرف وعدم الانسياق وراء التضخيم الإعلامي أو الخطاب الإعلامي المضاد الذي يؤدي _غالباً_ إلى نتائج عكسية , بل على العكس تماماً نجدُ أنَّ بعضَ وسائل الإعلام قد أعطت مساحةً لظهور أصحاب الفكر المتطرف وإعطائهم الفرصة للتعبير عن آرائهم المتطرفة .

ومن هنا يجبُ أن نتحدثَ عن دور وسائل الإعلام في مواجهة التطرف الفكري، والحاجة الماسة إلى تعامل مهني يرشد أداء الإعلام في التعامل مع الحوادث الإرهابية، يرصد نقاط القوة والضعف في الأداء الإعلامي في معالجة هذه القضية المهمة، فالتّطرف يضربُ نسيجَ المجتمع ويهدد كيانه فالإعلام المهني والوطني يحثُّ جميعَ مؤسسات المجتمع الرسمية وغير الرسمية لمواجهة الإرهاب والتطرف بجميع صوره، فاجتثاث جذور الإرهاب لا يمكنُ أن يتحققَ بالمواجهة الأمنية فحسب ؛ بل يجبُ تفعيل دور الإعلام في متابعة ورصد وتقييم أداء جميع المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية في مواجهة الفكر المتطرف، أي نحن اليوم بحاجة إلى تعاون الجميع لمواجهة هذه الآفة التي شاع انتشارُها في العالم .