ataba_head

دراسة جرائم التطرف في العراق بوصفها ضرورة معرفية

دراسة جرائم التطرف في العراق بوصفها ضرورة معرفية

د.قيس ناصر راهي

مركز دراسات البصرة والخليج العربي- جامعة البصرة

في الدول التي تعرضت لجرائم التطرف, توجد دراسات عديدة قُدمت ومازالت تُقدم, مثلما حدث في دراسة النازية والستالينية والفاشية, بوصفهم أنظمة سياسية قد ارتكبت جرائم ضد الانسانية, وربما لم تتوقف تلك الدراسات إلى لحظة كتابة هذه السطور, إذ إن دراسة الماضي معرفياً تساهم إلى حدّ ما بمنع الوقوع في أخطائه مرة أخرى.

وفي العراق, فإن الدراسات التي تتصف بالتحليل المعرفي لجرائم التطرف, تُعد محدودة جداً, وربما هذا ما يتحمله الباحثون, كمسؤولية معرفية أولاً, ومسؤولية أخلاقية ثانياً, لكشف وفهم عوامل التأسيس للخراب الذي شهدته الدولة العراقية في المائة عام الماضية, التي ارتكبت فيها جرائم جمة ضد الشعب العراقي. وفي الوقت نفسه, لا تنكر الحاجة إلى وجود مركز بحثي يُعنى بأرشفة ودراسة جرائم التطرف التي حدثت, وينظم جهود الباحثين المعنيين بدراسة الموضوع .

إن القراءة السريعة لمشهد الأحداث في العراق لمائة عام الماضية- وهو عمر الدولة العراقية المعاصرة التي تشكلت في عام 1921م- تشي بأن التطرّف وجرائمه ماثل في كل حقبة سياسية مرت بالعراق, إذ لا تكاد حقبة سياسية تخلو من جرائم التطرف, الذي هو أشبه بالفايروس ماثل في كل مكان, وينتقل من السلطة إلى الأفراد احياناً, نتيجة لتركه من دون تشخيص ومعالجة, فتشخيصه يتم عبر توثيقه, ومن ثم تأتي مرحلة دراسته, التي ستقدم معالجات لمنع الوقوع بأخطائه .

لا يمكن اليوم لأي شخص يهتم بدراسة الدولة العراقية أن يغفل عن جرائم التطرف التي ارتكبت, واقترنت احياناً وبشكل كامل بنظام سياسي, مثلما هو الحال مع حكم حزب البعث في العراق, إلا أن الكتابة عن جرائم البعث في ظل حكمه يُمكنها تحفيز الآخرين للكتابة عنها بعد انهياره, وذلك لمستجدات الوثائق التي توفرت لاحقاً, إلا أن حتى المؤلفين الذين اشتغلوا على فضح جرائم حزب البعث قبل سقوطه, لم يشتغلوا أو يضمنوا ما كتبوه بوثائق جديدة بعد سقوطه.

وانطلاقاً مما سبق, فهناك الحاح سؤال عن ما الذي حصل للعراق؟ وكيف حصل؟ ولماذا حصل؟ وهل يوجد فكر يغذي التطرف في العراق؟ وهل جرائم التطرف صناعة محلية مرتبطة بطبيعة الفرد العراقي وظروفه؟ أم هي صناعة خارجية؟ سيما أن مشهد الدولة العراقية بعد 2003م, قد اثبت أن جرائم التطرف قد اشتركت بارتكابها جنسيات مختلفة, ومن دول مختلفة.

إنه لمن الطبيعي اليوم, أن تُجرى عملية توثيق لكل الجرائم التي ارتكبت في العراق, وأن يكون هناك توجيه للبحث والاشتغال بهكذا موضوعات عبر تأسيس المراكز المعنية بذلك, فضلاً محاولة بيان حجم المشكلة التي شكلها التطرف, إذ لم يكن التطرف مكتفياً بالأفكار, التي توصف بأنها متطرفة, انما اقترن بالسلوك, إذ تشكّل سلوك متطرف, يرتبط بالسلطة أحياناً والفرد أحياناً أخرى, لأن بعض من حكموا العراق مثل البعثية قد أشركوا الأفراد بصناعة الجرائم عبر تنظيمهم بشكل واسع في المؤسسات الأمنية.

ما الجرائم التي ارتكبت؟ ولماذا ارتكبت؟ والاجابة عن هذين السؤالين بحاجة إلى جهد معرفي, يفهم من خلاله مرتكزات التطرف وجرائمه. لكن كيف يتم دراسة الأسس من دون الاهتمام بأرشفة وتوثيق ما جرى, فضلاً عن دراسته, فبعد مرور أكثر من ثمانية عشر عاما على سقوط نظام صدام, لم تُقدم دراسة للوثائق التي تم اكتشافها, إلا من خلال الجهود الفردية لبعض الباحثين .

كل تلك الأسئلة التي طُرحت وغيرها تعد ضرورة معرفية للحث على دراسة جرائم التطرف في العراق, كذلك هناك حاجة معرفية لتشكيل فرق بحثية من اختصاصات مختلفة لدراسة جرائم البعث -على سبيل المثال- ولا سيما من حقل الدراسات السياسية لبيان طبيعة النظام السياسي الذي انتج جرائم التطرف, والدراسات الفلسفية في دراسة الخوف, والقسوة, والعنف, والابادة الجماعية, وهي من المرتكزات الرئيسة للنهوض بأية دراسة تنوي معرفة الجرائم التي ارتكبت, كذلك دراسة الآثار الاجتماعية والنفسية التي نتجت عن كل ما ذُكر, فضلاً عن أهمية الدراسات التاريخية ولاسيما طريقة أرشفة وتحليل الوثائق المرتبطة بجرائم التطرف, ولا ينكر دور الأدب والفنون في وصف وتحليل ما جرى .