أ.د. حسين الزيادي
تجمع هذه المقالة في طياتها توثيق الجريمة السياسية، ورصد المأساة الإنسانية؛ إذ لم يكتفِ نظام البعث بالسجن والاعتقال وسيلة لقمع معارضيه، بل ابتدع أساليب غادرة لتصفية رموز الفكر والمقاومة الفكرية، ومنها استخدام مادة الثاليوم القاتلة، تلك المادة التي لا تترك أثراً ظاهراً يمكن اكتشافه، لكنها كانت كفيلة بإنهاء حياة الإنسان جسدياً.
المقدمة
في مسيرة المنبر الحسيني، تبرز شخصيات صنعت من خطابها حصناً للمقاومة الفكرية، وصوتاً يجمع بين شجن البلاغة، وقوة التأثير، وعلى رأس هذه الرموز يبرز الشيخ عبد الزهراء الكعبي (1914 – 1974)، الذي شكل حضوراً استثنائياً في مجال الخطاب الديني، محافظاً على هيبة المنبر واستقلالية رسالته، فهو لم يكن مجرد خطيب تقليدي؛ فقد امتلك كاريزما استثنائية، وقدرة فائقة على جذب الجماهير، اشتهر بقراءة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) صبيحة يوم عاشوراء، وهو التسجيل الذي ما يزال يتردد صداه في أرجاء العالم الإسلامي، هذا التأثير الشعبي الواسع جعل منه هدفاً استراتيجياً لنظام البعث الساعي إلى إخضاع الدين لسلطة الدولة، وتقييد خطاب المنبر.
سنوات التضييق
بدأت معاناة الشيخ عبد الزهراء الكعبي مع وصول حزب البعث إلى السلطة، إذ أدرك النظام أن الحشود التي تجتمع تحت منبر الشيخ تمثل قوة ناعمة خارجة عن سيطرته؛ لذا تميزت علاقته بالسلطة بالتوتر الدائم نتيجة عوامل عدة:
-
رفض التسييس: اتخذ الشيخ موقفاً حاسماً برفض تسييس المنبر أو توظيفه لمدح السلطة ومباركة أفعالها.
-
توعية الجماهير: كانت محاضراته تركز على بيان أسس النهضة الحسينية، ومبدأ انتصار الدم على السيف، وهي مبادئ ومفاهيم كان يقرأها النظام بوصفها تحريضاً غير مباشر ضده.
-
الشعبية العابرة للحدود: وصول صوته عبر الإذاعات والتسجيلات منحه حصانة شعبية، لكنها زادت من حقد الأجهزة الأمنية عليه.
-
كانت للشيخ الكعبي مجالس حسينية في مختلف مناطق العراق، فضلاً عن الأهـــواز وبعض دول الخليج العربي، وهو أمر أثار حفيظة سلطة البعث.
فصول المعاناة: الاعتقال والمضايقات
تعرض الشيخ الكعبي لسلسلة من المضايقات التي لم تنقطع، شملت:
-
الاستدعاءات المتكررة: كان يستدعى إلى مراكز الأمن في كربلاء وبغداد بشكل دوري للتحقيق والترهيب.
-
اعتقلته سلطات البعث مع عدد من الخطباء والعلماء في عام 1969 وأطلق سراحه بعد أربعة أشهر.
-
محاولات الإغراء: عرضت عليه السلطة مناصب وإغراءات مالية مقابل الصمت أو المهادنة، فكان رده الرفض.
-
التضييق على المجالس: فُرضت قيود مشددة على المحافل التي يقرأ فيها، ووُضع الجواسيس في مقدمة صفوف المستمعين؛ لتدوين كل شاردة وواردة.
الاغتيال الصامت: الشهادة
وصل الصراع إلى ذروته في عام 1974؛ إذ تشير شهادات المقربين إلى أن السلطة، بعد أن عجزت عن إسكاته بالترهيب، لجأت إلى التصفية الجسدية، ففي إحدى المجالس قُدم للشيخ قدح من القهوة المشبع بمادة الثاليوم – وهي الوسيلة المفضلة للاغتيال لدى أجهزة أمن البعث آنذاك، تدهورت حالة الشيخ الصحية بشكل متسارع، وفارق الحياة في الثالث من شوال، وسط صدمة شعبية عارمة، تحولت إلى تظاهرة سياسية كبرى أثناء تشييعه في كربلاء، على الرغم من التواجد الأمني المكثف.
يروي علي، نجل الشيخ عبد الزهراء الكعبي، أن والده حضر أحد مجالس العزاء، حيث قُدم له فنجان من القهوة من قبل أحد الأشخاص الذي قال له: أتشرف بأن أقدّم لك القهوة بنفسي، وعند صعود الشيخ إلى المنبر في صحن العباس (عليه السلام) أُغمي عليه، ما اضطره إلى مغادرة المكان والعودة إلى المنزل، وفي أثناء الطريق تعرّض للتقيؤ، ثم ما لبث أن سقط طريح الفراش فور وصوله إلى البيت، وبعد تدهور حالته الصحية، جرى نقله إلى المستشفى، إلا أنه فارق الحياة في الطريق قبل وصوله.
إن ما يعزز ترجيح رواية تسميم الشيخ عبد الزهراء الكعبي، إلى جانب ما ورد عن أهله وأبنائه والمقربين منه، هو أن تلك الحقبة اتسمت باتباع نظام البعث لأساليب سرّية في تصفية معارضيه، من بينها استخدام سمّ الثاليوم، وأن اللجوء إلى تصفية الشيخ الكعبي بشكل علني في ذلك الوقت كان ينطوي على مخاطر كبيرة؛ نظراً لما كان يتمتع به الشيخ من قاعدة جماهيرية واسعة، فضلًا عن إدراك الرأي العام لطبيعة علاقته المتوترة مع النظام البعثي.
الثاليوم.. التعريف والخصائص
اعتمدت أجهزة البعث، ضمن أساليب التصفية الصامتة وغير المعلنة، استخدام سمّ الثاليوم بحق المعارضين أو الشخصيات التي كانت تصفيتها المباشرة تسبب إشكالاً وحرجاً للنظام، ومن أسباب شدة سمية الثاليوم أنه من السموم الخلوية العصبية شديد السمية، وغالبًا ما يشار إليه بـ (سم السموم).
يستخدم الثاليوم في أجهزة الكشف بالأشعة تحت الحمراء والنظائر المشعة في الطب النووي، ولكنه مقيد بسبب سميته، حين يوجد في محلول مائي على شكل ثاليوم أحادي التكافؤ، ويُعطى من خلال طعام المعتقل أو شرابه، أو من خلال زرق الإبر(1)، ويتم استعماله للأسباب الآتية:
-
يعتبر سمّا خفيا صعب الاكتشاف، تُشابه أعراضه أمراض شائعة (كاضطرابات الجهاز الهضمي أو العصبي)، ما يؤدي إلى تأخر التشخيص.
-
الثاليوم عديم اللون والطعم والرائحة تقريبًا عند إذابته، وهذه الخاصية تجعله غير ملحوظ عند تناوله، وهو ما زاد من خطورته.
-
بطء تأثيره النسبي، فلا يسبب الوفاة الفورية، بل تدهوراً تدريجياً في الحالة الصحية، ربما تمتد إلى (15) يوماً، لكنه يمكن أن يسبب الوفاة الفورية في حالة زيادة جرعته.
-
صعوبة ربطه بالتسميم الجنائي في المراحل الأولى دون فحوص مخبرية متقدمة.
حالات مشابهة
من الصعوبة بمكان الإلمام بجميع حالات التصفية التي قامت بها أجهزة نظام البعث باستخدام سم الثاليوم، وأن هذا الأسلوب من التصفية يمتاز بصعوبة اكتشافه وتوثيقه؛ لذا سنورد بعض الحالات التي تم توثيقها من خلال الشهود والمنظمات الدولية:
-
السيد محسن شبّر، وهو من خطباء المنبر الحسيني في كربلاء المقدسة، وقد اعتقل مدة من الزمن، وقبل إطلاق سراحه سقوه السم، وبدأت تظهر عليه الأعراض، مثل تساقط الشعر ونحوه، لكنه لم ييأس واستطاع أن يغادر العراق، ووصل إلى بريطانيا، وأضاف السيد شبر في حديث له مع السيد رياض الحكيم صاحب كتاب (في سجون الطاغية) قائلاً :رأيت هناك أربعة من العراقيين حالتهم مشابهة لحالتي، ولمّا فحصني الأطباء، قالوا: الحالة ميؤوس منها فليذهب إلى العراق ليموت هناك، وكتبوا في التقرير الذي ما يزال معي أنّي سقيت كمية كبيرة من الثاليوم، وبالفعل مات الأربعة الآخرون، لكن ولدي نزار أرشدني إلى الذهاب للهند، فذهبت هناك وراجعتُ الحكماء الهنود فعالجوني وبدأت أتحسّن وعاد لي الوعي وخفّت الآثار.
-
دس سم الثاليوم إلى الخطيب الشيخ عبد الأمير أبو طالب، ومع سلوى البحراني أخت الدكتور احسان البحراني، إذ خاف الأطباء في العراق من مداواتها ومنعتها السلطة من السفر للخارج حتى استشهدت (رحمها الله)، بعد وضع مأساوي مرّت به بسبب معاناتها من تأثير ذلك الشراب القاتل عام ١٩٩٢ م (2).
-
الخطيب محمد علي حسن الشهرستاني: من مشاهير خطباء المنبر الحسيني وفي جملة الحملات التي قام بها النظام للقضاء على خطباء المنبر الحسيني استدعي فضيلته لدائرة أمن بغداد عام 1980، وبحجة السؤال عن أولاده الذين خرجوا خارج العراق هرباً من جور السلطة، وقد سُقِيَ جرعة من السم أثناء الاستجواب، وبعد خروجه من الدائرة المذكورة مات متأثرا بسم الثاليوم(3).
-
الشهيد السيد كاظم هاشم محمد آل قفطون: كان خطيباً حسينياً بارزاً، اعتقل ولده سيد محسن الذي كان في الثلاثين من عمره، من قبل مجرمي كربلاء، ونقل إلى مديرية الأمن قرب الطرق والجسور، سقي سم الثاليوم وأطلق سراحه ثم ساءت حالته واستشهد، كان قارئاً معروفاً قرأ في بيوتات كربلاء المعروفة(4).
-
إن عملية دس سم الثاليوم لم تقتصر على الخطباء وعلماء الدين؛ فقد حصل مع قياديين في حزب البعث، أراد النظام التخلص منهم، ومنهم مجدي جهاد عضو القيادة القطرية آنذاك؛ إذ اكتشف فريق من الأطباء البريطانيين الذين أشرفوا على علاجه في لندن أنه كان قد تناول كمية غير طبيعية من مادة الثاليوم(5)، وكذلك صالح مهدي عماش الذي دس له سم الثاليوم في الشاي(6).
البعد القانوني والتوثيقي
يوصف فعل النظام ضمن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فقد نص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في الجزء الثالث/ المادة (6) أن الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان، وعلى القانون أن يحمي هذا الحق، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفا، والحرمان من الحياة جريمة من جرائم الإبادة الجماعية، وتضمنت المادة التاسعة من العهد المذكور أن لكل فرد حقاً في الحرية، وفي الأمان على شخصه، ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا، ولا يجوز حرمان أحد من حريته، إلا لأسباب ينص عليها القانون، وطبقا للإجراء المقرر فيه، أما المواد من (3-21) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الحقوق المدنية والسياسية كالحق في الحياة والحرية والأمان، والحق في عدم الرق والعبودية والسخرة، والحق في عدم الخضوع للتعذيب، ولا للمعاملة القاسية أو اللاإنسانية، والحق في الجنسية، والحق في التنقل، والحق في التمتع بالشخصية القانونية.
أما دستور العراق المؤقت لعام 1970 الذي ينبغي أن يقيد تصرفات النظام؛ فقد نص في المادة الحادية والعشرين: أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا تجوز العقوبة إلا على الفعل الذي يعتبره القانون جريمة أثناء اقترافه، ولا يجوز تطبيق عقوبة أشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجرم، وفي المادة الثانية والعشرين: إن كرامة الإنسان مصونة، وتحرم ممارسة أي نوع من أنواع التعذيب الجسدي أو النفسي، ولا يجوز القبض على أحد، أو توقيفه أو حبسه أو تفتيشه، إلا وفق أحكام القانون.
المصادر
-
هيئة العفو الدولية، التقرير السنوي، لندن، منشورات العفو الدولية، 1981، ص395، نقلا عن سمير خليل.
-
أحمد غالب محيي الشلاه، النظام الحزبي في العراق 1968-2003، رسالة ماجستير، العلوم السياسية، جامعة بغداد، 2005.
-
جليل العطية، فندق السعادة حكايات من عراق صدام حسين، دار الحكمة، لندن، الطبعة الأولى، 1993، ص217.
-
السيد رياض الحكيم، في سجون الطاغية، دار الهلال، قم المقدسة، 2015، ص79-80.
-
عزيز السوداني، وثائق لا تموت، الجزء الرابع، مطبعة معهد التكنلوجيا، بغداد، 2019، ص.92
-
صاحب الحكيم، موسوعة عن قتل واضطهاد مراجع الدين وعلماء الحوزة الدينية لشيعة بلد المقابر الجماعية 1968- 2003، منظمة حقوق الانسان في العراق، 2005
-
جليل العطية، فندق السعادة حكايات من عراق صدام حسين، مراجعة وتقديم احمد رائف، دار الزهراء للإعلام العربي، القاهرة، 1992.
-
دستور العراق المؤقت 1970.
-
مقابلة مع النجل الأكبر للشيخ الكعبي https://www.youtube.com/watch?v=eMesH4h_nEM