أ.د. حسين الزيادي
الوثيقة المرفقة ربطاً مادة أرشيفية على درجة عالية من الأهمية توثق آلية عمل الأجهزة الأمنية في تطبيق آلية التجريم السياسي والعقاب الجماعي، ومصادرة الممتلكات إبان حكم نظام البعث في العراق، وهذه من أشد انتهاكات حقوق الإنسان، وأكثرها جسامةً وقسوة في ظل الأنظمة الشمولية.
تظهر هذه الوثيقة الصادرة عن مديرية الأمن العامة بتاريخ 10/12/ 1983، والموجهة إلى القيادة العسكرية لفرع ذي قار، بوصفها جهة عسكرية وأمنية تنفيذية جانباً مهماً من آلة القمع، وكيف كان نظام البعث يتعامل مع المواطنين تحت ذريعة – العداء لمسيرة الحزب والثورة – والوثيقة تحمل طابع (سري وشخصي) وتضم قرارات تعسفية طالت عدداً من الأبرياء وعائلاتهم.
الوثيقة تحمل العدد ق 6/24022، ويبدو أنها جاءت رداً على كتاب سابق من قيادة فرع ذي قار العسكري يحمل الرقم 10/30302 في 28/6/1983، ومضمون الوثيقة يتعلق بمعلومات عن أربعة مواطنين عراقيين، إذ تُبين مديرية الأمن العامة أنها بعد تدقيق سجلاتها بخصوص الأشخاص المراد استحصال المعلومات عنهم اتضح لها ما يأتي:
1- ن. ض. خليل جميل أيوب: أحيلت قضيته إلى محكمة الثورة فأصدرت الحكم بإعدامه؛ لأنه أحد عناصر حزب الدعوة.
2- ضياء جميل أيوب: هو شقيق المواطن المذكور في الفقرة أولا ومنتمي إلى حزب الدعوة بحسب منطوق الوثيقة، لكنه تمكن من الهرب؛ فصدر بحقه أمر قبض وفق المادة 156 ق.ع، وتم حجز عائلته في رئاسة المخابرات، ولم تذكر الوثيقة عمله أو أية معلومات عنه، كما لم يتم ذكر عدد أفراد عائلته الذين تم حجزهم.
3- ن .ع .جاسم خليل إبراهيم الخزرجي: وهو من أهالي الدجيل، وقد تمكن من الهرب، وتم حجز عائلته وأقربائه في رئاسة المخابرات، ولم تتطرق الوثيقة للتهمة المنسوبة لهذا المواطن، كما أنها لم تذكر سبب احتجاز أقاربه، فضلاً عن عائلته.
4- جسام حسين مهدي محمد الشوزي: تم حجز عائلته في رئاسة المخابرات كونها من العوائل الطائفية والحاقدة على مسيرة الحزب والثورة!!
في نهاية الوثيقة هناك هامش بإرسال نسخة من الكتاب إلى مديرية أمن صلاح الدين في ضوء برقية سابقة صادرة منهم تحمل العدد 31865 في 3/10/ 1983، وهذا الهامش يشير إلى أن مديرية أمن صلاح الدين قد خاطبت الأمن العامة بخصوص المواطن جاسم خليل إبراهيم الخزرجي، كونه من سكنة ناحية الدجيل التابعة إدارياً إلى محافظة صلاح الدين.
انتهاكات ممنهجة
هذه الوثيقة ليست قراراً أمنياً اعتيادياً؛ إنها شهادة مكتوبة تمثل دليلاً مادياً واضحًا على مجموعة من الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان التي كانت تُمارس في تلك الحقبة، وهي الآتي:
- منهج العقاب الجماعي الذي اتبعه النظام ضد أهالي المحكومين، ودور الأجهزة الأمنية، والمخابرات في خطف الناس، وحجز العوائل دون محاكمة.
- استخدام تهمة الانتماء لحزب الدعوة حجةً لتصفية المعارضين السياسيين.
- خرق مبدأ شخصية العقوبة، فالقانون الدولي والمبادئ الدستورية والتشريعات القانونية تنص على أن العقوبة شخصية، ولا تمتد إلى الغير.
- خرق مبدأ الشرعية الجنائية (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص).
- لم تتناول الوثيقة أي تفاصيل بشأن ظروف احتجاز العوائل، غير أن المؤشرات جميعها تدل على أن أماكن الاحتجاز كانت بعيدة كل البعد عن المعايير الدولية، وأن تلك العائلات خضعت لظروف قاسية بلغت حدّ المساس بكرامتها الإنسانية وحقوقها الأساسية.
تظهر الوثيقة احتجاز عوائل الأشخاص الذين أدين أقاربهم (حتى بعد إعدامهم)، وهذا تطبيق صارخ لمبدأ العقاب الجماعي، إذ يُعاقب الأبناء والأقارب الأبرياء اقتصاديًا ومالياً بجريمة لم يرتكبوها؛ مما يفقدهم حقهم في العيش الكريم والملكية.
انتهاك الحق في الحياة والعدالة القضائية
تم تطبيق عقوبة الإعدام استنادًا إلى تهم ذات طبيعة سياسية — كالاتهام بالانتماء إلى حزب الدعوة — من دون أي ضمانات لمحاكمة عادلة، في انتهاك فاضح لحرية التعبير وتكوين الجمعيات، وضمن سياق منظم لقمع الرأي، وإسكات الأصوات المعارضة.
ذرائع غير منطقية
احتوت الوثيقة على مصطلحات وتعابير غريبة وغير منطقية لا تمت للمنهج القانوني بصلة، فإحدى العوائل تم احتجازها؛ لأنها بحسب منطوق الوثيقة من العوائل الطائفية والحاقدة على الحزب والثورة، فالحقد دافع ذاتي غير مادي وغير ملموس، لا يستوجب العقوبة والحجز، إذ إن القانون لا يعاقب على دوافع نفسية، ومشاعر، وافتراضات أو انتماءات؛ لأن العدل والعدالة الجزائية يتطلبان وضوحاً في ما هو ممنوع، وما هو معاقب عليه، وأي نظام يعاقب أشخاصاً بناء على مشاعر الحقد أو الانتماء العائلي أو ارتباطات القرابة دون فعل مادي يكون قد خرق صميم الشرعية القانونية، وأساء استخدام السلطة، فالقانون الجزائي نص على عدم جواز العقوبة وفقاً للنوايا، أو الانفعالات إلا حين تتحول إلى فعل مكتمل أو إلى حالة شروع ، وهذا من صلب مبدأ الشرعية، فقانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 ينص في مادته الأولى على أنه: (لا عقاب على فعل أو امتناع إلا بناء على قانون ينص على تجريمه وقت اقترافه، ولا يجوز توقيع عقوبات أو تدابير احترازية لم ينص عليها القانون)، ووفقاً لهذا المبدأ لا يمكن تجريم فرد أو توقيع عقوبة عليه بناء على نية فقط، أو دوافع نفسية، أو مشاعر، أو انتماء عائلي، بل يجب أن يكون هناك فعل مادي محدّد يعاقب عليه قانون صريح، وبالتالي فإن جريمة احتجاز العوائل أو الإبعاد، أو التسريح الوظيفي بناء على – الحقد على مسيرة الحزب والثورة- بحسب تعبير الوثيقة أو لأي اعتبارات سياسية وأيديولوجية هي إجراءات غير قانونية.
غياب المعايير
لو تنازلنا جزافاً وقلنا إن الحقد أو الانتماء الطائفي بحد ذاته يصح لتوقيع العقوبة، فلنا أن نتساءل عن المعايير التي اتبعها النظام في تشخيص ذلك؛ لأن الشعور والعواطف يستحيل إثباتها أو قياسها بشكل مادي، وقد تُستغل لأغراض سياسية أو انتقامية، فالقانون الجنائي يتطلب قياس الفعل بشكل مادي ملموس، والأمر بمجمله يؤدي إلى انتهاك مبدأ شرعية العقوبة، ومبدأ المساواة بين المواطنين، ووجود هذه المصطلحات الفضفاضة غير القابلة للقياس يجعل من العقوبة وسيلة انتقامية تهدف إلى ترهيب المجتمع وإشاعة الذعر والخوف بين صفوفه.
خرق مبدأ الشرعية
غياب مبدأ الشرعية القانونية: الوثيقة تتضمن أوامر وتعليمات تتعلق باحتجاز عوائل دون وجود حكم قضائي أو إشارة إلى إجراءات قانونية سليمة، وهذا يتعارض مع مبدأ: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، ويتعارض مع الحق في المحاكمة العادلة وقرينة البراءة المنصوص عليهما في الدستور العراقي، وقد نصّت المادة (23) من الدستور على أن العقوبة شخصية، وأكدت المادة (21) من دستور عام 1970 على أن العقوبة شخصية، ولا تُفرض العقوبة إلا على الفعل الذي يعدّه القانون جريمة وقت ارتكابه.
ووفقًا للمعايير والأعراف الدولية، فإن معاقبة عائلة الجاني أو أقاربه تُعد مخالفة صريحة للمواثيق الدولية، ومن بينها البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف لعام 1977، ولا سيما المادة السادسة منه الخاصة بالمحاكمات الجنائية، التي تنص على أن لا يُدان أي شخص بجريمة إلا على أساس المسؤولية الجنائية الفردية.
موقف القانون الدولي
العقاب الجماعي يتعارض مع مبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان الأساسية، إذ يؤدي إلى ترويع المدنيين الأبرياء، ويعتبر القانون الدولي أن تطبيق العقاب الجماعي قد يشكل جريمة حرب إذا تم استهداف المدنيين، أو تم استخدامه كأداة للترهيب أو التطهير، ويظهر هذا المبدأ جلياً في اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، إذ يُحظر الانتقام من المدنيين، أو معاقبتهم لممارسات يرتكبها آخرون، وأشار العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية في المادة التاسعة إلى أن لكل فرد حق في الحرية وفى الأمان على شخصه، ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفاً، ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون، ويقدم الموقوف أو المعتقل بتهمة جزائية سريعا إلى أحد القضاة، أو أحد الموظفين المخولين قانونا، ويكون من حقه أن يحاكم خلال مهلة معقولة أو أن يفرج عنه، ولا يجوز أن يكون احتجاز الأشخاص الذين ينتظرون المحاكمة هو القاعدة العامة.
ترسيخ منهج الردع
تُظهر الوثيقة المرفقة، وغيرها كثير، أن النظام البعثي لم يتورّع عن امتهان كرامة الأفراد والعوائل والانقضاض على أبسط القيم الإنسانية تحت شعار الولاء المطلق، وتظهر هذه الوثيقة بوضوح طبيعة النظام الشمولي ذي الطابع الأمني الذي ساد خلال ثمانينيات القرن الماضي، إذ كانت الأجهزة الأمنية تجمع بين دور المشرع والآمر والمنفذ، فتتخذ قرارات تمس حرية الأفراد دون أي شكل من أشكال الرقابة القضائية أو التشريعية، ويكشف هذا النمط من الممارسة عن حالة تغوّل للأجهزة الأمنية، في مقابل غياب تام لدور القضاء والبرلمان، الأمر الذي أسّس لبيئة تُنتزع فيها الحقوق، ويُقمع فيها أي صوت خارج إطار الطاعة العمياء، ومن خلال تحليل لغة الوثيقة ومضمونها، يتبيّن أن الهدف الجوهري السعي المتعمّد لترسيخ سياسة ردع منظّمة، وبثّ الخوف والرعب في المجتمع لضمان الخضوع الكامل لسلطة النظام، وتحويل المواطنين إلى مجرّد منفّذين للتوجيهات، فاقدين لحقّ الاعتراض أو القدرة على التعبير عن الرأي.
