banarlogo

ذاكرة يد.. حكاية ضحايا الكفّ المقطوعة والجبين الموسوم

د. قيس ناصر
تُبيّن مراجعة الأدبيات المعنية بالتاريخ الإجرامي أنّ جرائم العنف لا تُرتكب دائماً بدافع واضح؛ فالكاتب أندريه جيد صاغ مبكراً -في سنة 1912م- مفهوم (الفعل المجاني)؛ لتفسير الجرائم التي تُرتكب بلا مسوّغ ظاهر، كما ذكره كولن ولسون في دراسته التاريخ الإجرامي للجنس البشري (سيكولوجيا العنف البشري) الذي يرى أن كثيراً من هذه الأفعال تنطوي على انفصام داخلي واختلال نفسي يجعل من الإيذاء غاية بحدّ ذاته، وعند مقاربة هذه الرؤى مع حالة العراق في حقبة نظام البعث، ينهض سؤال جوهري: ما الدافع الذي حرّك صدام حسين ونظامه لارتكاب جريمة قطع يد مجموعة من التجار؟
إنّ قراءة تجارب الضحايا تشير بوضوح إلى أن عُنف البعث لم يكن مجرد انتهاك للقانون، بل كان النتيجة المنطقية لبنية النظام نفسه، إذ أُعيد تشكيل المجتمع عبر آليات منهجية لنزع الإنسانية وتجريم المختلف على وفق سياسة الخوف.
وفي المقابل من ذلك، يشكّل الصمت تجاه تلك الجرائم أحد أخطر أشكال الإسهام في إعادة إنتاج العنف، إذ يعمل الصمت على زعزعة الثقة في المفاهيم التي تُطرح باسم الأخلاق أو الفكر، ويجعل من الصعب التسليم بادعاءات الكرامة الإنسانية ما دام الإنسان قادراً على الوقوف متفرّجاً أمام أفعال مجرّدة عن الإنسانية.
ومن هنا تبرز أهمية الذاكرة بوصفها فعلًا مضادًا للعنف. وكما يقول جبران خليل جبران، “للضحايا صوت ترتعد له السماء”- نقلاً عن كمال عبد اللطيف-، فيما يذكّر جورج سانتيانا بأن تجاهل الماضي يمهّد لتكرار مآسيه، وليس استحضار الذاكرة نوعاً من اجترار الألم، بل سعياً إلى إعادة الاعتبار لمن سُلبت كرامتهم، ومعالجة الجراح المفتوحة التي خلّفتها جرائم البعث. وقد أكسبت دراسات الإبادات الجماعية والجرائم الأخرى مفهوم (واجب التذكّر) حضوراً لافتاً خلال العقود الأخيرة، وهو تطور يرتبط – كما يوضح جيفري بلوستين في موسوعة روتلدج لفلسفة الذاكرة – بإعادة النظر في العلاقة بين الذاكرة والعدالة. وفي السياق نفسه، يؤكد المفكر الفرنسي بول ريكور أن تجاوز صدمات الماضي لا يتحقق عبر محو الأثر، بل عبر مقاومة النسيان وإعادة بناء السرديات التي تحفظ الحق وتواجه الإنكار.
في هذا الإطار، تمثّل حكاية ضحايا الكفّ المقطوعة والجبين الموسوم إحدى أكثر الصفحات قسوة في سجل جرائم نظام البعث، فقد تعرّض أفراد من الكسبة وأصحاب المحال الصغيرة لعقوبات جسدية مهينة تمثّلت في قطع اليد اليمنى من الرسغ، ووسم الجبين بعلامة  (X)في ممارسة تجمع بين العقاب الجسدي، وانتزاع الهوية، ولم تكن هذه الإجراءات ردعاً جنائياً، بل شكلًا من أشكال السيطرة الرمزية التي تُعيد صياغة الجسد ذاته بوصفه مساحة للعقاب.
وفي سياق المقال، فإن رواية “ذاكرة يد حكاية من تابوت الأمن” لكريم كطافة، تمثّل نموذجاً توثيقياً أدبياً مهماً لسرديات العذاب في زمن نظام البعث بشكل خاص ولخطاب الضحايا بشكل عام، فالرواية هنا تجسيد قوي للتعبير عن القسوة بطرق تبعث على التأمل والتفكير؛ مما يسمح للمتلقي بفهم واقع تلك التجارب والمعاناة بشكل أكبر، دون الحاجة إلى النظريات المعقدة .
تتناول رواية ذاكرة يد حكاية الضحية صلاح حسن زناد، المدرّس وخريج قسم اللغة العربية في الجامعة المستنصرية، وقد بُنيت على أربعين ساعة من الشهادات الصوتية التي سجلها الكاتب عبر لقاءات امتدت ثلاثة أشهر، فضلاً عن وثائق مكتوبة ومصوّرة جُمعت بجهده وبمساعدة الضحية. وعلى مدى سنتين من العمل، مزج المؤلف بين حرية التخييل الأدبي وصرامة التوثيق الواقعي، ليُعيد تشكيل الحكاية عبر راوٍ واحد هو صلاح نفسه، في محاولة لاستعادة ما جرى، وذاكرة الألم، ومنح الضحية صوتاً يتجاوز حدود التجربة الفردية إلى فضاء الذاكرة الجماعية .
وعلى وفق ما رواه صلاح حسن، لكن هذه المرة ليس بوصفه بطلاً للرواية، إنما راويا لإفادته في مؤتمر ذاكرة الألم الذي عقده المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف بالتعاون مع كرسي اليونسكو لمنع الإبادة الجماعية ومؤسسات العدالة الانتقالية في العراق خلال شهر نيسان 2025م، قائلاً “نتيجة سياسات النظام الطائشة وغزوهِ الكويت تعرّض العراق إلى حصار دولي كان من آثارهِ انهيار الاقتصاد وتدهورت قيمة العملة، ومن غرابة الإجراءات لمعالجة ذلك قام النظام بطبع العملة العراقية محلياً!!! ونتيجة لذلك تسارع الانهيار الاقتصادي فانهار الدينار العراقي، أراد النظام وكعادتهِ أن يحرفَ الأنظار ويسوّغ فشله باتهام الأبرياء بأنهم سبب الانهيار؛ إذ قام بإعدام بعض التجار في بغداد في أوائل التسعينيات لتبدأ سلسلة من القرارات والأفعال العجيبة الغريبة، في 21/8/1994 تم إلقاء القبض عليَّ وعلى آخرين بتهمة التعامل بالدولار والإضرار بالاقتصاد الوطني، حيث جاء رجال الأمن إلى بيتي في منطقة المشتل ببغداد وأخذوني إلى بناية كبيرة في منطقة العلاوي عليها لافتة كبيرة (المؤسسة العامة للطرق والجسور)!. بقيتُ هناك أربعة أيام مع آخرين، حيث تلقيتُ الشتائم والتعذيب بالفلقة أثناء التحقيق بعدها أخذوني إلى بناية قديمة مقابل مستشفى العلوية ببغداد، وتم حشري مع أعداد كبيرة في غرفة واحدة تُسمى التابوت لشكلها الهندسي الذي يبدأ بمساحة محدّدة ثم تضيق شيئاً بعد شيء. تعرضنا لشتى أنواع التعذيب والرعب والجوع وانقطاع أخبارنا عن أهالينا، ومنعنا من توكيل محام للدفاع عنا…. -بتاريخ 1/10/ 1995 أخذوني ومجموعة آخرين إلى (المحكمة الخاصة في مديرية الأمن العامة) بمنطقة البلديات ببغداد، حيثُ حُكِمْتُ وفق قرار (٧٤) لسنة ١٩٩٤ بقطع اليد اليمنى من الرسغ، وكذلك وشم علامة x على الجبين بحسب قرار (١٠٩) لسنة ١٩٩٤ ومصادرة الأموال المضبوطة واعتبار الجريمة مخلّة بالشرف!! – لاحقاً وفي 25/8/1994 صدر عن مجلس قيادة الثورة قرار برقم (١١٧) يمنع إزالة الوشم عنّا ومعالجتنا ومعاقبة المخالف بنفس العقوبة !! – في 27/3/1995 تم تنفيذ الحكم بنا نحن (التسعة) في سجن (أبو غريب)، حيثُ قُطعِت أيادينا ووِشِمَت جباهنا بعلامة x وبعد أربعة أيام تم إطلاق سراحنا).
وكذلك روى حسن حسين الكريعاوي- أحد ضحايا الكف المقطوعة- قصته في لقائه مع الإذاعة الهولندية العالمية-نقلاً عن براثا نيوز- وكذلك في اللقاءات التي سجلها له المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف، وفي جزء من روايته ذكر:” في ذلك اليوم كان عرس أخي، لم أكن أعرف سبب الاعتقال، حين تم اعتقالي، كان متجري مغلقاً منذ أسبوع، لم أتوقع يوماً أن أتعرض للاعتقال، وحتى لو توقعتُ الاعتقال لأي سبب في ذلك الزمان، فلم يدر في ذهني أبداً أن يعتقلوني بسبب التجارة، وأن يقطعوا يدي لهذا السبب.” “مجرد خطأ” هل كان الاعتقال مجرد خطأ؟ اشتباهاً في الاسم؟ أم محاولة للتخلص من مسؤولية الأزمة الاقتصادية في البلاد ورميها على بعض الأفراد الذين اختيروا عشوائياً؟ وحين أمر النظام بقطع أيدينا، عرفنا بعد فترة أنه كان يعتبرنا مسؤولين عن رفع أسعار الدولار في السوق. لكنهم لاحقاً اطلعوا على إمكانياتنا، وتبين لهم أننا لسنا في وضع يمكّـننا من ذلك. نحن لم نكن نمتلك حتى منازل خاصة بنا” .
 وعلى الرغم من ذلك فإن من يقرأ هذه الشهادات أو يسمعها هي أو غيرها من إفادات الناجين يدرك جيداً أن الألم المفرط يستحيل التعبير عنه، مع ملاحظة أن أساليب التعذيب في هذه الجريمة ارتبطت بحالة خاصة بإذلال الضحايا، والتعذيب هنا يعبر عن حالة قصوى من الإذلال، ويبقى الضحية معذباً مدى الحياة، وهذا ما أكده المفكر النمساوي جان امري في كتابه (عند حدود العقل) وهو أحد المعنيين بدراسة التعذيب بقوله ” إن الذي يخضع للتعذيب يبقى معذبا مدى الحياة …”
وبالعودة إلى رواية ذاكرة يد, يكتب كريم كطافة وهو يقترب من نهاية حكايته –المكتوبة- على لسان بطلها صلاح ” نعم لقد أخطأت أمريكا حين شنت الحرب تحت ذريعة البحث عن أسلحة غير موجودة أصلاً. كان هناك سبب أكثر خطورة من الأسلحة المزعومة، يعرفه العراقيون، ولا يعرفه العالم، هو صدام حسين نفسه. هذا الرجل بذاته كان سلاح دمار على شعبه وعلى بقية الشعوب” .
إن رواية ذاكرة يد حكاية من تابوت الأمن لكريم كطافة ليست مجرد سرد لمعاناة فردية، إنما تمثل نموذجاً لأرشفة الألم وتوثيقاً لآليات سلطة نظام البعث في إنتاج العنف، وهي دعوة صريحة لإدراك أن كتابة التاريخ الصعب (Difficult History) ليست ترفاً معرفياً، بل ضرورة أخلاقية تسهم في ألّا يصبح الماضي صفحة مطوية، أو جرحاً بلا معنى، أو جريمة قابلة للتكرار.
الهوامش:
١- رابط لقاء مع صلاح حسن زناد:
https://www.youtube.com/shorts/YBaDRUnKIs0
2- لتفاصيل أكثر عن جريمة قطع اليد ضد مجموعة من التجار العراقيين التي ارتكبها نظام البعث، يمكن الرجوع إلى:
  • الإفادة التي قدمها صلاح حسن زناد وحسن حسين الكريعاوي في مؤتمر ذاكرة الألم نيسان 2025م، الذي عقده المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف بالتعاون مع كرسي اليونسكو لمنع الإبادة الجماعية ومؤسسات العدالة الانتقالية في العراق ضمن الجلسة الثالثة. رابط الإفادة:
https://www.youtube.com/watch?v=xyiqsT_A60M
  • لتفاصيل قصة حسن حسين الكريعاوي أحد الضحايا المقطوعة كفهم، يمكن مشاهدة سلسلة الحلقات التي سجلها له المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف. من خلال الروابط:
https://www.youtube.com/watch?v=De2Fy1Q4jtc
https://www.youtube.com/watch?v=98NC9SjXUXY
https://www.youtube.com/watch?v=jKM4kIYkc0g
https://www.youtube.com/watch?v=eE8szBsshMU
https://www.youtube.com/watch?v=ISwnwskPP-o
https://www.youtube.com/watch?v=SfkrbIJrs4g
https://www.youtube.com/watch?v=KOAuWDSEd1c
https://www.youtube.com/watch?v=fy-bMcJlAhE
3- كريم كطافة، ذاكرة يد حكاية من تابوت الأمن، دار سطور، بغداد، ط أولى، 2022م.