banarlogo

نظام البعث :الإعدام خارج نطاق القضاء

أ.د. حسين الزيادي
الوثيقة السرية المرفقة ربطاً صادرة من مديرية الأمن العامة إلى قيادة فرع القادسية العسكري، جاءت تحت عنوان معلومات، تحمل العدد 45/ 1963 بتاريخ 11/11/1986، ويبدو أنها جاءت بناءً على كتاب سابق من قيادة فرع القادسية العسكري يحمل الرقم ف ق4/27/2787 في 11/10/1986، ومضمون الوثيقة هي معلومات عن المواطن عبد الكريم نعيم عباس سهر العيداني من سكنة محافظة البصرة/ الهارثة، عمله جندي مكلف، ما يهمنا من متن الوثيقة هي فقرة في غاية الأهمية جاءت بعنوان (معلومات أخرى)، فقد ذكرت الوثيقة أنه تم تنفيذ حكم الإعدام بحق والد نعيم عباس سهر؛ بسبب هروب ولده العسكري الجندي المكلف ناصر عباس سهر إلى جانب العدو.
تُجسد الوثيقة موضوع المقال مثالًا صارخاً على الانتهاكات القانونية الجسيمة التي ارتكبها نظام البعث في العراق، وتكمن الخطورة في إعدام شخص لم يُتهم أو يُدان شخصياً بأي فعل مخالف للقانون، بل كان العقاب نتيجة فعل ارتكبه أحد أفراد أسرته، وهو الابن الذي هرب إلى جانب العدو، وعملية الإعدام تُمثل خروجاً كاملًا عن القواعد القانونية الأساسية التي تُنظم العدالة الجنائية، وتشكّل خرقًا صارخًا لمبادئ حقوق الإنسان التي تحمي الفرد من العقاب الجماعي أو التعسفي.
مبدأ شخصية العقوبة
   تتنافى أحكام الإعدام التي جاءت في الوثيقة المرفقة مع المبادئ القانونية التي تضمن عدم تحميل شخص مسؤولية أفعال غيره، وتُعد من أشد أشكال التعسف التي يمكن أن تواجه الفرد في ظل الأنظمة الشمولية، ومثل هذه الممارسات لا تؤدي فقط إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وإنما تترك أثراً مدمراً على المجتمع؛ إذ تغرس الخوف والشك والعداء تجاه الدولة ومؤسساتها، فمن المبادئ القانونية الأساسية التي تم انتهاكها في هذه الوثيقة هو مبدأ شخصية العقوبة، الذي ينص على أن المسؤولية الجنائية تقع فقط على من ارتكب الفعل المجرم، ولا يجوز توسيع نطاق العقاب ليشمل أقارب المتهم أو غيره من الأشخاص، هذا المبدأ، الذي يشكل ركيزة لا غنى عنها في جميع التشريعات الجنائية الحديثة، يحمي الفرد من العقاب المبني على القرابة أو الانتماء العائلي، ويضمن أن العقاب يتم وفق إجراءات قانونية سليمة وبموجب حكم قضائي، وتأسيساً على ما تقدم فإن الوثيقة انتهاك فاضح لهذا المبدأ.
 
عدم وجود إجراءات قضائية
تخلو الوثيقة تمامًا من أي ذكر لإجراءات قضائية رسمية، مثل محاكمة عادلة أو تحقيق مستقل، إذ يبدو أن اتخاذ القرار وتنفيذ العقوبة تم عبر جهة أمنية تنفذ دون رقابة أو ضوابط قضائية، وهذا الوضع يضع تنفيذ العقوبة في خانة الإعدام خارج نطاق القضاء، وهو أحد أبشع الانتهاكات لحق الحياة، إذ يؤكد القانون الدولي ضرورة توفير ضمانات قضائية مشددة قبل تنفيذ أي عقوبة، خاصة العقوبات القصوى مثل الإعدام، ولاشك أن انعدام هذه الضمانات يقوّض الشرعية القانونية لأي حكم، ويضعف ثقة المواطنين في المؤسسات القضائية وأجهزة الدولة.
العقوبة الانتقامية  
  من منظور أوسع، يظهر حكم الإعدام المذكور في الوثيقة حالة شائعة في أنظمة تستغل فيها الأجهزة الأمنية سلطتها لتعزيز سيطرتها عبر قمع المعارضين وأسرهم؛ مما يجعل من الإجراءات الأمنية أداة للعقاب السياسي، ويحول دون تحقيق العدالة، ويضعف الأسس الديمقراطية ويُقوّض حقوق الإنسان بشكل عام.
من جانب آخر تظهر هذه الوثيقة إخفاقًا قانونيًا وأخلاقيا بالغا، وتظهر بوضوح كيف يمكن للاعتبارات السياسية والأمنية أن تتجاوز القانون والعدالة؛ مما يؤدي إلى إهدار حقوق الإنسان الأساسية، وأهمها حق الإنسان في الحياة.
الوثيقة تشير بوضوح إلى أن السبب الوحيد أو الأساسي للإعدام هو هروب الابن، وليس قيام الأب نفسه بأي عمل مجرَّم، وبالتالي فالمخالفات القانونية في الوثيقة تشتمل على  انتهاك مبدأ شخصية العقوبة وكل القوانين الجنائية في العالم، فضلاً عن أن حكم الإعدام ضرب عرض الحائط مبدأ قانوني مهم هو: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص – ويبدو أن هناك غياباً تاماً لأية محاكمة أو إجراءات قضائية، فالوثيقة لا تذكر وجود تحقيق قضائي أو محاكمة أو حكم صادر عن محكمة مختصة، وهذا يعني أن الإعدام تم إدارياً وليس قضائياً، وهذا يُعد إعداماً خارج نطاق القضاء، وهي المخالفة الأخرى التي أشارت لها الوثيقة.
الوثيقة – وفقاً لمحتواها – تمثل قراراً غير قانوني من جميع الجوانب، وبالتالي تُعد الوثيقة دليلاً على انتهاك صارخ للقانون الوطني والدولي، ويمكن تصنيف قرار الإعدام الوارد في الوثيقة بأنه جريمة دولة أو جريمة ضد الإنسانية، إذ كان جزءاً من نمط منهجي إبان حكم البعث.
يُعد حق الحياة من الحقوق الأساسية التي تشكل أساس حماية الفرد في جميع مظاهر حياته. فقد أكدت المواثيق الدولية أن حماية حق الحياة ليست مجرد حماية قانونية، بل هي التزام أخلاقي وسياسي تجاه الإنسانية جمعاء. ويأتي العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية كإطار ملزم للدول الأطراف لضمان احترام هذا الحق وحمايته من أي انتهاك.
الإطار القانوني الدولي:
إن حماية حق الحياة تعتبر حجر الزاوية للكرامة الإنسانية والركيزة الأساسية في منظومة حقوق الإنسان، وتطبيق العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يفرض على الدول اتخاذ التدابير القانونية والإجرائية لضمان هذا الحق، وتؤكد الممارسة الدولية ضرورة تعزيز آليات الرقابة والمساءلة لضمان احترام حياة الإنسان والحفاظ على كرامته، وينص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في مادته السادسة على أن – لكل إنسان الحق في الحياة، ويجب أن يكون هذا الحق محميًا بموجب القانون، ولا يجوز حرمان أحد منه تعسفيًا-،ويُلزم هذا النص الدول الأطراف باتخاذ كافة التدابير التشريعية والإدارية لحماية الحق في الحياة.