أ.د. حسين الزيادي
لم تستهدف سياسة التهجير التي انتهجها نظام البعث جميع الفئات على نحو متساوٍ، بل انصبت بصورة رئيسة على أبناء الطائفة الشيعية، وجاء هذا التمييز مدفوعاً برغبة النظام في إضعاف الحركات الإسلامية، وإفراغ الوسط الشيعي من طاقاته الشبابية التي كان يرى فيها مصدر تهديد محتمل، ويعزّز هذا الفهم أن حملات التهجير لم تطل المكوّنات الأخرى ذات الأصول الإيرانية: كالآشوريين والأرمن والمسيحيين أو الأكراد والعرب الخوزستانيين؛ إذ لم يكن النظام يرى فيهم قاعدة اجتماعية يمكن أن تنتج عناصر فاعلة في الحركات الإسلامية، أو أي نشاط ديني معارض يهدد السلطة، وكانت هناك استثناءات لمن يثبت ولاؤه السياسي أو الحزبي للنظام.
أما شريحة الشباب فقد تم تصفية قسم كبير منهم وآخرون توفوا خلال التحقيق، وهناك فئة من الشباب استثنوا من ملف التبعية أو الترحيل، ولم يتم الاهتداء إلى مصيرهم على الرغم من أن عوائلهم رُحلت، وقد اتضح لاحقا من خلال الوثائق أن هؤلاء يتم إعدامهم ويُكتب إلى قيادة الجيش الشعبي بدرج أسمائهم ضمن الراغبين بالقتال في قواطع الجيش الشعبي على الرغم من أنهم أعدموا، ثم تقوم قيادة الجيش الشعبي بمفاتحة ديوان الرئاسة لغرض صرف رواتب تقاعدية لهم، وبحسب الوثائق المرفقة ربطاً التي سنأتي على تحليل مضمونها بشيء من التفصيل.
المذكرة الأولى المرفقة ربطاً معنونة إلى معاون مدير الأمن العام تعلوها عبارة: تحية وتقدير.. وترفق المذكرة كتاب مديرية الاستخبارات العسكرية العامة المرقم م2.ش4.ق2م 121741في 18/7/1988 التي تطلب معلومات عن مصير المواطن فارس علي شاه مراد، الذي تم نعته بالإيراني، وهنا تم الاجابة بما يأتي:
-
المذكور من التبعية الايرانية والذي كان محجوزاً في قلعة السلمان.
-
تم إعدامه كون جميع العائلة سفرت إلى إيران!!!
3ـ دُرج اسمه ضمن الأسماء المرسلة إلى القيادة العامة للجيش الشعبي بموجب كتابنا المرقم 90043 في 1/11/1986 لغرض دفع اسمه إلى رئاسة الديوان الموقر لتخصيص راتب تقاعدي له.
نقترح (أي مديرية الأمن العامة) إخبار مديرية الاستخبارات العسكرية بأن المذكور كان محجوزاً لدينا، وأطلق سراحه وأرسل إلى القيادة العامة للجيش الشعبي بموجب كتابنا المرقم 90013 في 4/7/1986 لغرض المشاركة في قواطع الجيش الشعبي، وإلى هنا انتهت المذكرة الموقعة من قبل مدير الشعبة الخامسة.
وهذا يعني أن قسم من الشباب الذين تم ترحيل عوائلهم خلال عقد الثمانينيات كانوا يُعدمون بدون محاكمات قانونية، وتُخبر مديرية الاستخبارات العسكرية العامة بأن هؤلاء الشباب قد أطلق سراحهم والتحقوا بقواطع الجيش الشعبي، ويتم بعد ذلك رفع اسم المعدوم إلى رئاسة الديوان لتخصيص راتب تقاعدي له، بمعنى آخر أن هؤلاء الشباب أُدرجوا شكلياً في الجيش الشعبي، لكنهم في الحقيقة أعدموا، وبعد مخاطبة ديوان الرئاسة يقوم الديوان بمخاطبة وزارة المالية، ويتضح من الوثيقة الثانية المرفقة ربطاً والمرقمة ق/10/51809 في 10/12/1987 وعنوان الوثيقة منح حقوق تقاعدية وفحواها: هو حصول الموافقة على منح عوائل الأشخاص المبينة أسماؤهم أدناه راتباً تقاعدياً مقدراهُ (54) ديناراً شهرياً لكل عائلة، والوثيقة موقعة من قبل أحمد حسين خضير رئيس ديوان الرئاسة، وارفقت مع الوثيقة قائمة بأسماء الأشخاص الذين تمت في حقيقة الأمر تصفيتهم مع ذكر مهنهم وعناوينهم، وهذه الوثيقة التي حملت عنوان منح الحقوق التقاعدية جاءت وكما موضح في ذيلها بناءً على كتاب القيــادة العامة للجيش الشعبي في كتابها السري والشخصي ذي العدد ح ق/6/2105 ..
عموماً الأمر لا يخلو من الغرابة فعوائل هؤلاء هم من المرحلين، فمسألة الراتب انتفت من أصلها بمعنى أنه إجراء شكلي لا يترتب عليه أثر مالي؛ لأن هؤلاء الأشخاص أعدموا ورُحلت عوائلهم، والملفت للنظر أن هؤلاء يفترض – بحسب وزارة المالية وقيادة الجيش الشعبي- أن تتم تسميتهم بالشهداء أو المتوفين أثناء الخدمة ومن جرائها؛ لأنهم بحسب الإجراء الشكلي شاركوا في قواطع الجيش الشعبي، فأما يكونوا شهداء، أو أنهم توفوا أثناء الخدمة ومن جرائها، لكن الوثيقة أطلقت عليهم لقب (الأشخاص)، ومن الأمور التي يمكن استنطاقها من خلال تحليل الوثيقة أن (60%) من هؤلاء هم طلبة، ويظهر من خلال أماكن سكناهم وأسمائهم أنهم ينتمون لمكون معين .
جريمة ضد الإنسانية
بحسب منظور القانون الدولي يمكن تكييف هذه الجريمة على أنها جريمة ضد الإنسانية، ووفقًا للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في 17 تموز 1998، الذي يحدد الجرائم المصنفة كجرائم ضد الإنسانية، يُعتبر الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية إذا ارتُكب في سياق هجوم ممنهج وواسع النطاق يستهدف أي مجموعة من السكان المدنيين، وينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية العليا، الذي بدأ سريانه في عام 2002، بالإضافة إلى الاتفاقية الدولية لحماية الأفراد من الاختفاء القسري المعتمدة من الجمعية العامة عام 2006، على أن الاختفاء القسري يُعد جريمة ضد الإنسانية عند ارتكابه ضمن هجوم واسع النطاق أو ممنهج ضد المدنيين، ويحق لأسر الضحايا المطالبة بالتعويض والكشف عن مصير أقاربهم الذين طالهم هذا الفعل الإجرامي.
نصت المادة (12/ثانياً/ز) من قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لسنة 2005 على تعريف جريمة الاختفاء القسري للأشخاص، معتبرة هذه الجريمة من الجرائم ضد الإنسانية، مع استثناء تطبيق مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي على هذه الجريمة في الماضي، وقد شملت هذه الجريمة كل حالات الاعتقال أو الاحتجاز أو الخطف التي تقوم بها الدولة أو الجهات التابعة لها، أو التي تنشأ عن سكوتها وتغاضيها عن تلك الأفعال؛ مما يؤدي إلى حرمان الأشخاص من حقوقهم الأساسية لمدد زمنية طويلة.
والجدير ذكره أن المادة السابعة من نظام روما الأساسي في فقرتها الثانية (ط) عرفت جريمة الاختفاء القسري بالتعريف نفسه الذي ورد في قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا رقم (10) لسنة 2005.

