banarlogo

لجان الإعدام والمحاكمات الميدانية في حرب الثمانينيات

أ.د. حسين الزيادي

  إن لجان الإعدامات في الجيش العراقي السابق تمثل نموذجاً صارخاً لاستخدام القانون الميداني كأداة للاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، فهي لم تكن لجاناً لضبط السلوك العسكري، بل مؤسسات للقمع السياسي، أسهمت في تدمير روح المؤسسة العسكرية، وتشويه علاقتها بالمجتمع، ولم تكن المحاكمات التي تجريها تلك اللجان تستند إلى أي معايير قانونية، إذ يمنع المتهم من الدفاع عن نفسه، أو الاستعانة بمحام، وبعد النطق بالحكم يُنفذ الإعدام فوراً رمياً بالرصاص، في المواقع الخلفية لجبهات القتال أو في داخل مقرات الفيالق، وتُسجَّل القضية تحت عناوين عامة، مثل الخيانة العسكرية، أو محاولة الهروب من الواجب، وفي كثير من الحالات يجرى تصوير عمليات الإعدام لتستخدم لاحقاً في حملات الترهيب داخل المؤسسة العسكرية، وتعزيز ثقافة الخوف والامتثال القسري.

تعود جذور هذه اللجان إلى حقبة الحرب العراقية – الإيرانية (1980–1988)، إذ اتخذ قرار بإنشاء لجان ميدانية تمتلك صلاحيات فورية في محاكمة الضباط والجنود، وتنفذ الإعدامات من دون الرجوع إلى القضاء العسكري الاعتيادي، وتطورت هذه اللجان لاحقاً لتصبح جزءاً مؤسسياً من آلية القمع، وأعطيت صلاحيات واسعة، وامتد عملها إلى مراحل ما بعد الحرب العراقية الإيرانية، خصوصاً أثناء انتفاضة 1991.

أولاً: التشكيل والصلاحيات

أصدر صدام بصفته القائد العام للقوات المسلحة توجيهاً سرياً بتاريخ 23/3/1982 يعلن فيه عن تشكيل مفارز خاصة، كما في الوثيقة المرفقة ربطاً، وجاء فيها ما مضمونه: (من أجل استمرار روح النصر والشجاعة، تقرر ما يلي):

 

  • تقوم الألوية داخل الفرق والألوية المستقلة بتشكيل مفارز مختارة، يجري اختيار عناصرها من قبل آمر اللواء وبالتنسيق مع المسؤول الحزبي وضابط استخبارات اللواء، وتُكلَّف هذه المفارز بمهمة محددة عند بدء القتال مع العدو، وهي التحرك خلف اللواء مباشرة ومواجهة أي عنصر يتراجع أو ينسحب دون توجيه رسمي، بما في ذلك استخدام السلاح لردع المتخلفين والمتسربين.
  • تُنشأ داخل الفرقة بدورها مفارز مشابهة، يتم تشكيلها بالتشاور بين قائد الفرقة والمسؤول الحزبي وضابط الركن الثاني (الاستخبارات)، وتُمنح صلاحية التعامل الفوري والحازم مع حالات التخاذل أو التسرب وفقاً لما ورد في البند الأول.
  • ترتدي هذه المفارز علامات مميزة تفرّقها عن غيرها، ويقودها ضباط ذوو رتب لا تقل عن ملازم أول في مستوى الألوية، ورائد على مستوى الفرق. (1) وتتألف هذه اللجان ميدانيا من:
  1. ضابط رفيع (غالباً ما يكون برتبة عميد أو عقيد) رئيساً للجنة.
  2. ممثل عن الاستخبارات العسكرية.
  3. ممثل عن حزب البعث يكون دوره الأساسي مراقبة التنفيذ.

ثانياً: وقائع وشهادات

هناك كثير من الشهادات التي توثق عمل لجان الإعدام، والمحاكمات الميدانية، وفي بعض الأحيان تُوضح عمل هذه اللجان لبقية المقاتلين من خلال محاضرات التوجيه السياسي لزرع الرعب، وفي حالات الإعدام التي تجري في مقرات الفيالق يُستدعى جندي من كل لواء ليشاهد عملية التنفيذ وينقلها إلى الآخرين، ومن الشهادات التي تم استطلاعها في هذا المجال هي:

  • يقول حسن الزيدي كنت في الجبهة سنة 1982، وفي المنطقة الواقعة ما بين التنومة والشلامجة كان هناك مقر لفرقة إعدامات، أعضاؤها موشحون بوشاح أحمر، ومهمتهم إعدام الجنود المنسحبين، وخلال معركة نهر جاسم تم إعدام الكثير من زملائنا ممن اختاروا الانسحاب.
  • يقول أحد الشهود خلال الحرب العراقية – الإيرانية شاهدت إعدام (44) شاباً هارباً ومتخلفاً من الجيش في محافظة ميسان- منطقه البتيره، وقد تم استدعاء عوائلهم ليشهدوا عملية الإعدام، فضلا عن استدعاء بعض الجنود من مقر الفيلق الرابع وكنت ضمنهم؛ إذ بلغ عددنا أكثر من (200) جندي لكي تتم مشاهدة عمليات الإعدام لغرض نقل الخبر إلى وحداتنا العسكرية.
  • يقول أحد الجنود كنت من المشتركين بمعركة المحمرة عام 1982، وقد وقعت وحدتي العسكرية في الأسر، إلا أن إرادة الله شاءت أن تضرب كابينة السيارة العسكرية التي نقلتنا إلى الخلفيات الإيرانية، فوصلنا إلى نهر الكارون، وكان فصيل الإعدامات مرابطين في الجهة الثانية يعدمون كل من يصلهم، ويتم دفنهم في حفر جماعية، وكنا نشاهد ذلك في منطقة (كتيبان) مع مجموعة من الجنود.
  • يذكر أحد الضباط العراقيين: لقد حاصر الإيرانيون (٦) ألوية عراقية في المحمرة، وقد ذهبت القطعات لقمة سائغة للإيرانيين، إذ كان تجمع الألوية داخل المحمرة وليس على الأطراف، وعند الانسحاب غرق آلاف الجنود، وهم يحاولون عبور شط العرب، فيما أسر الإيرانيون (19) ألف جندي، وسبق ذلك اندحار الفرقة المدرعة التاسعة والفرقة المدرعة الثالثة في قاطع الكارون بعدما عبرت القوات الإيرانية إلى الضفة الغربية من النهر المذكور، وأجبرت القوات العراقية على التراجع إلى داخل الحدود العراقية؛ ما سهل انسياب القطعات الإيرانية إلى شمال المحمرة؛ نتيجة هذا حدثت حملة إعدامات ميدانية كبيرة طالت العديد من الضباط والمراتب نالت حتى قائد الفيلق الثالث اللواء صلاح القاضي، وقائد الفرقة المدرعة الثالثة العميد الركن جواد أسعد شيتنه، وآمر اللواء المدرع الثاني عشر العقيد الركن محسن عبد الجليل، وأقيمت لهم محكمة ميدانية سريعة فيما غض الطرف عن العميد الركن طالع الدوري على الرغم من أن فرقته بدبابتها وجنودها قد سقطت في الأسر.
  • شهادة أخرى من محمد الزيادي من أهالي السماوة يقول: كنت برتبة رئيس عرفاء في القلم السري خلال الحرب العراقية الإيرانية، وكانت تأتينا أسبوعياً أكثر من برقية (سرية وعلى الفور) معها ملحق بإعدام من (1٠٠-2٠٠) جندي في مواقع عسكرية مختلفة في جبهات القتال ومثبتة فيها أسماؤهم وأماكن سكنهم، وفي أحد المرات أشرف عزت الدوري على إعدام (140) جندياً بوصفه نائب القائد العام للقوات المسلحة، وهناك حملات أشرف عليها محمد يونس الأحمد شملت مئات الجنود بعد معركة المحمرة.

الموقف القانوني

حكم الإعدام الذي يُنفذ دون الضمانات القضائية المطلوبة (حقّ الدفاع، محاكمة علنيّة، استقلال القضاء) يخالف القانون الدولي لحقوق الإنسان، وبموجب قواعد اتفاقيات جنيف الأربع والقانون الدولي الإنساني، ولا يوجد نص يمنح الحق في تنفيذ الإعدام تلقائياً لمن يهرب من المعركة، أو من الخدمة العسكرية، بل هناك شروط وضمانات ينبغي الالتزام بها منها: إذا هرب مقاتل من المعركة، فإن الدولة التي ينتمي إليها قد تعتبره مذنباً بفرار أو خيانة أو التخلّف عن الخدمة، وقد تنظّم له محاكمة عسكرية أو تفرض عليه عقوبة بموجب قانونها العسكري الداخلي، لكن لا يجوز تنفيذ الإعدام بشكل تلقائي أو ميداني من دون محاكمة قانونية تُلبّي الضمانات المقرّرة في القانون الدولي.

أحد النصوص الأساسية هو المادة (3) المشتركة لاتفاقيات جنيف الفقرة ( د)، التي تقول إنّه: في حالة نزاع مسلّح يجب على الأطراف حظر إصدار أحكام وتنفيذ إعدامات من دون حكم صادر مسبق عن محكمة مُنشَأة بانتظام وتكتمل فيها الضمانات القضائية، وما يعنيه هذا أنّ أي قرار بإعدام شخص حتى إذا كان هارباً من المعركة لا يمكن أن يُنفّذ إلا بعد محاكمة عادلة من محكمة مُنشَأة بانتظام، فضلاً عن توفر الضمانات القانونية.

(1) محمد مجيد، القسوة لدى صدام حسين، ص644