banarlogo

تجريف بساتين النخيل في حقبة نظام البعث

أ.د. حسين الزيادي

تُعَدّ شجرة النخيل رمزاً حضارياً من رموز العراق، إذ شكّلت على مرّ العصور جزءاً أصيلاً من الذاكرة الثقافية، والهوية الوطنية لبلاد ما بين النهرين، بما تحمله من دلالاتٍ تاريخية واقتصاديةٍ عميقة تجسد ارتباط الإنسان بالأرض، فضلاً عن كونها ركيزة اقتصادية مهمة في البنية الاقتصادية، لما تمثّله من مصدرٍ استراتيجي مهم لدعم الأمن الغذائي وتعزيز التنمية المستدامة، ومع ذلك لم تسلم هذه الشجرة المباركة من تعسف نظام البعث وطغيانه، فقد شهد قطاع النخيل في العراق على مدى عقود من حكم نظام البعث تراجعاً واضحاً في الإنتاج، وفي القدرة التصديرية، فمع سياسات نظام البعث في الثمانينيات بدأت هذه الثروة تنهار تدريجياً، بفعل الحروب وتجريف مساحات واسعة من بساتين النخيل خصوصاً على الحدود الشرقية للعراق، وفي المناطق التي يرى فيها النظام خطراً على أمنه، وقد أقرّ صدام صراحة خلال محاكمته بأنّه أمر بتجريف بساتين في بلدة الدجيل بوصفه إجراءً أمنياً.

الوثيقة المرفقة ربطاً صادرة من مكتب أمانة السر للقيادة العامة للقوات المسلحة وموجهة إلى هرم السلطة، جاءت بعنوان سري وشخصي، وموضوع الوثيقة يتضمن تقرير الأعمال الهندسية (قلع النخيل)، ويتكون متن الوثيقة من تقرير مرفق يبين جانباً من الأعمال الهندسية لعملية قلع النخيل في قاطع عمليات الفيلق السابع الرقم (34)؛ لغاية 13/12/1985، والوثيقة التي تتضمن التقرير تم عرضها على رئيس أركان الجيش سابقا.

أما تقرير الأعمال الهندسية الخاصة بقلع النخيل لعمليات الفيلق السابع الرقم (28) لغاية 2 /11/1985 فقد تضمن موقف المعدات الهندسية والبالغة  (134) شفل، و(179) بلدوزر، و (140) عجلة قلّاب، أما موقف قلع أشجار النخيل فقد تضمن التقرير أن الفرقة (15) قد جرّفت (42) كم، وأن نسبة الإنجاز تراوحت بين (60-77%)، أما الفرقة (26) فقد جرّفت (55) كم من جبهة الفرقة، والأسبقية الأولى البالغ عمقها (60) كم، وقد تم تجريف (19) كم بنسبة إنجاز (36%)، أما الأسبقية الثانية، فقد تم تجريف (31) كم بنسبة إنجاز (57%)، عموما المسافة المخصصة لقلع النخيل تبلغ (97) كم، وبنسبة إنجاز لغاية إعداد الوثيقة (46%) للأسبقية الأولى و (66%) للأسبقية الثانية كما يتضح من التقرير المرفق.

إن الهدف من قلع أشجار النخيل في الشريط الحدودي هو تهيئة الأرض لحركة المدفعية والمدرعات والعجلات العسكرية؛ خدمةً للحروب العبثية التي أشعلها نظام البعث، التي اعترف لاحقاً أنها كانت خدعة وعملية إلهاء للقدرات الخيرة في العراق وإيران – بحسب تعبيره – وهكذا أتلفت أكبر غابات النخيل في العراق والممتدة على طول الشريط الحدودي، وكذلك غابات النخيل المحاذية لشط العرب، وتحولت مناظر أشجار النخيل إلى جذوع محترقة نتيجة القذائف والهاونات، فضلاً عن قيام حكومة البعث بردم مجاري المبازل التي تمد بساتين النخيل بالمياه بهدف تأمين حركة القطعات العسكرية.

ولم يقتصر أمر تجريف بساتين النخيل على المناطق الحدودية، أو مناطق القتال، بل شمل جميع المناطق التي يشك النظام في عدم ولائها، وربما استخدم التجريف سياسة عقابية وأسلوب للردع والتخويف، ففي المنطقة الواقعة بين مدينة الحلة وقضاء الهاشمية كانت بستاتين النخيل تمتد طول (34) كم أمرت سلطات البعث بتسويتها بالأرض؛ لعدم ولاء أهل المنطقة لسياسة البعث؛ مما أسهم في فقدان نصف مليون نخلة أغلبها من النوعيات النادرة، وفي ضوء حادثة الدجيل الشهيرة تم تجريف عشرات آلاف الأفدنة من البستاتين وأشجار النخيل على طول الطريق من مدينة بلد إلى بغداد، ولا توجد إحصائية يمكن الركون إليها تبيّن المساحات المجرفة؛ لكنها تقارب الـ (1000) كم2  ، وهذه تعد من أخصب الأراضي العراقية الصالحة للزراعة، والجزء الأعظم منها يروى سيحاً (46265 دونماً)، أما الأراضي التي تروى من المشروع فتبلغ (48277 دونماً)(1)، وقد اعترف رأس النظام صراحة خلال الجلسة الرابعة عشرة لمحاكمته أن التجريف تم بناءً على أوامره.

الآثار البيئية لجريمة تجريف النخيل

إن الآثار البيئية لجريمة إزالة الغطاء الأخضر وأهمها أشجار النخيل تظهر بشكل مباشر أو غير مباشر على البيئة المحيطة؛ مما يجعل هذا الفعل يدخل ضمن ما يسمى بالجريمة البيئية؛ لأن الغطاء النباتي يسهم في الحفاظ على موارد الإنتاج، وحفظ التربة من التعرية والانجراف، ويساعد في زيادة مخزون المياه الجوفية، وتحسين نوعية المياه السطحية، وتقليل الترسبات الطينية في السدود والخزانات، ويحافظ على قدرة الأراضي الإنتاجية وزيادة المادة العضوية، ويقلل خطر الملوحة والجفاف من خلال التظليل الكبير لسطح التربة، وأثره في تقليل التبخر والنتح، وبالتالي تقليل شدة الحرارة الناجمة عن أشعة الشمس أو المنعكسة من سطح الأرض، وتؤثر في حركة الرياح ويزيد من سقوط الأمطار، وله دور إيجابي كبير في تغيير المناخ، ويسهم وجود الغطاء النباتي وتزايده في نشوء النظم البيئية المناخية الموضعية التي تؤثر في المناخ إيجابا، لما تشكله من دور مهم في بناء الكتلة الحيوية والكساء الخضري، واتساع نطاقها وكثافتها وأنشطتها في البناء الضوئي، وما ينجم عنها من العمليات الحيوية المتعلقة بامتصاص غاز ثاني أوكسيد الكاربون والتبخر والنتح، فالغطاء النباتي ليس صديقاً للبيئة فحسب، بل يمثل حجر الزاوية في بنائها.

أما الجانب الآخر لجريمة تجريف النخيل وقلعه؛ فيتمثل بالضرر الحاصل على أصحاب البساتين والقضاء على المهن التي يمارسونها؛ لأن هذه الشجرة تمتاز بكثرة اليد العاملة التي تستوعبها في مجال الجني والتكريب والتلقيح والمكافحة والري، فضلاً عما تخلفه عملية التجريف من تلوث بصري كبير، إذ تحولت المناطق الخضراء بين ليلة وضحاها إلى مناطق صحراوية تعلوها التلال وجذوع النخل.

 

انتهاكات قواعد القانون الدولي

يُعد حقّ الملكية في القانون المدني العراقي من أسمى الحقوق العينية، فهو يمثّل السلطة المطلقة على شيءٍ مادي ملموس، ويمنح المالك الحق في التمتّع بملكه واستثماره والتصرّف فيه بكامل الحرية، ويُعرَّف هذا الحق بأنه حقّ دائم لا يسقط بالتقادم، يخول صاحبه سلطةً مطلقة على ما يملكه، غير أنّ إجراءات وسلطات نظام البعث كانت مثالًا واضحًا على التعسّف ومخالفة الدستور، إذ تصادمت ممارساته مع المواثيق والأعراف الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، ذلك أنّ بساتين النخيل التي جرفها النظام تمثّل ثمرة جهد أصحابها التي ورثوها أباً عن جد، فاقتلاع أشجارها يعدّ انتهاكًا صريحًا للحق في التملّك.

لقد نقض نظام البعث نصّ المادة (17) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي أكدت أنّ لكلّ فردٍ حقًا في التملّك، ولا يجوز تجريد أحدٍ من ملكه تعسفًا، وخالف نظام البعث دستور عام 1968، الذي نصّت مادته (17) على أنّ الملكية الخاصة مصونة، أمّا دستور عام 1970 فقد جاء أكثر وضوحًا، إذ نصّ في المادة السادسة عشرة من الباب الثاني المتعلق بالأسس الاجتماعية والاقتصادية للجمهورية العراقية على أنّ الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية الفردية مكفولتان في حدود القانون،  ولم يقتصر الأمر على النصوص الدستورية، بل أكّد المشرّع العراقي في قانون العقوبات لعام 1969 حرصه البالغ على حماية الملكية الخاصة، من خلال المواد: (477، 478، 479)، التي شددت على معاقبة كل من يعتدي على أموال الغير، سواء كانت منقولة أم عقارا، بما يظهر إصرار المشرّع على صون الملكية الفردية ووضع الجزاء الرادع لكل من ينتهكها بأي شكل من الأشكال.

انتهاكات القانون الدولي الإنساني

تحتل البيئة موقعاً جوهرياً في اهتمامات المجتمع الدولي؛ نظراً لتأثيرها الإيجابي المباشر على حياة الفرد والمجتمع، ومن ثمّ الاعتراف بها و

تأكيد ضرورة حمايتها من الأضرار، باعتبار أن الإخلال بها قد يسبب تدميراً للحياة البشرية، واقتلاع النخيل والأشجار مصداق مهم لتدمير البيئة، وفي سياق النزاعات المسلحة تُعالج مسألة حماية الغطاء النباتي من خلال قواعد القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، إذ تضمّنها ‎البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 ضمن مواد متخصصة، مثل المادة (35) التي تحظر استعمال وسائل وأساليب قتال من شأنها أو يُتوقّع منها أن تُسبّب أضراراً واسعة النطاق، وطويلة الأمد، وخطيرة للبيئة الطبيعية، وكذلك المادة (55) التي تشدّد على أنه: (يُراعى في القتال حماية البيئة الطبيعية من الضرر الواسع والطويل الأمد )، وتتضمّن أيضاً تحريم استخدام وسائل القتال أو الأساليب التي من المتوقّع أن تُلحِق مثل هذا الضرر.

 

 

 

(1) جمهورية العراق، وزارة الموارد المائية الهيئة العامة لتشغيل مشاريع الري وبزل، مديرية الموارد المائية الإسحاقي، ص49.