الدكتور نعمه العبادي
في اللحظة التي ينطفئ فيها صوت السلاح، لا ينطفئ أثره، فالحرب، بما تحمله من صدمات متراكمة وتحوّلات عميقة في الوعي، تظلّ متحفّزة داخل الذاكرة الفردية والجمعية، كأنها جرح مفتوح يتنفس رغم محاولات الإغلاق.
مجتمع ما بعد الحرب – الذي تبناه هذا المقال – ليس مجتمع الناجين وحدهم، بل مجتمع يشمل كل من لامسته الحرب في جسده أو في خياله، من عاش التجربة ومن ورثها، من حمل الندبة ومن حمل روايتها، إنّه مجتمع يطفو على حقول كثيفة من الذكريات المنكسرة، والتطلعات المؤجلة، والحنين المربك، والبحث المضني عن معنى جديد للحياة، وفي قلب هذا البحث تتولد ضرورة ملحّة لظهور ما يمكن تسميته بـ “ذاكرة الردع”: تلك القدرة الجمعية على تحويل التجربة المأساوية إلى وعي وقائي يحول دون تكرار العنف.
ذاكرة الردع ليست مجرد استدعاء للماضي، بل إعادة تنظيم للوعي، فالماضي، كما تعلّمنا كل تجارب البشرية، ليس حدثاً منتهياً، بل مادة خام يعاد تشكيلها عبر السرديات، والرموز، والتأويلات، والحوارات الصامتة التي تدور داخل النفس الجمعية.
ما ينجو من الحرب ليس الجسد وحده، بل الخطاب الذي يتشكل حولها: من المسؤول؟ لماذا حدثت؟ ما الذي كان ممكناً تجنّبه؟ وكيف يمكن أن لا يحدث هذا مرة أخرى؟ وهذه الأسئلة – حين تتحوّل إلى أدوات إنتاج للوعي – تفتح الباب أمام نشوء ذاكرة تعمل ليس على تذكير المجتمع بما وقع فقط، بل على ردعه عن السقوط ثانية في الهاوية ذاتها.
في مجتمع ما بعد الحرب، تكون الذاكرة ساحة نزاع بقدر ما تكون ساحة شفاء، تتصارع فيها السرديات: سردية الضحية، وسردية المنتصر، وسردية الخسارة الوطنية، وسرديات الكراهية التي تحاول إعادة تدوير العنف في صياغات جديدة. وهنا، تحديداً، تبرز أهمية ذاكرة الردع بوصفها محاولة لفرز ما يجب أن يبقى من الذاكرة وما يجب أن يذهب، وما ينبغي أن يتحوّل إلى درس، وما ينبغي أن يتحوّل إلى تحذير.
لا يتطلب بناء ذاكرة الردع نسيان الألم، بل يتطلب معرفة كيفية تحويله إلى معرفة، فذاكرة الردع هي في جوهرها ذاكرة تعلّم وليست ذاكرة ثأر، إنها ذاكرة تنقل التجربة من مستوى الشعور الآني إلى مستوى الوعي النقدي، وتعيد تعريف الحرب لا بوصفها ملحمة أو بطولة، بل بوصفها فشلاً أخلاقياً وسياسياً وثمناً رهيباً للقرارات المتهوّرة والخطابات المحرّضة، وهي بذلك تمنح المجتمع القدرة على رؤية الصراع بمنظار مختلف: لا باعتباره قدراً، بل باعتباره نتاجًا لعوامل يمكن تفكيكها، ومخرجات يمكن منعها، ومسارات يمكن تعديلها.
المجتمعات الخارجة من الحرب غالباً ما تكون في حالة هشاشة إدراكية تجعلها أكثر قابلية للانجرار وراء الخطابات الانفعالية. ومع غياب توازن الذاكرة، يتحول الماضي إلى مادة قابلة للتلاعب.
وهنا تتحول ذاكرة الردع إلى ضرورة وجودية؛ لأنها تسعى إلى كبح هذا الانفعال عبر زرع طبقات من الوعي التحليلي الذي يربط بين القرارات ونتائجها، وبين الأخطاء ومساراتها، وبين الأوهام الكارثية التي صنعت الحرب وبين الإمكانات السلمية التي كان يمكن انتهاجها.
وتتشكل ذاكرة الردع عبر أدوات متعددة، بعضها رمزي وبعضها معرفي وبعضها سلوكي، أولى هذه الأدوات هو التوثيق: فالحدث الذي لا يُوثق يتحول إلى مجال للتأويل المتطرف، بينما الحدث الذي يُسجّل بدقة وبصوت الضحايا ودموعهم وصورهم، يتحول إلى مرجع معرفي يقاوم النسيان ويُفشل محاولات تزييف الماضي. التوثيق لا يمنح الذاكرة شكلها فقط، بل يمنحها أخلاقها أيضًا؛ لأنه يعيد الاعتبار للإنسان الذي سحقته الحرب ويُخرج صوته من صمت الألم إلى ضوء الوجود.
الأداة الثانية هي التأويل، وهو عملية عقلية – اجتماعية تتجاوز التوثيق لتطرح سؤال المعنى. التأويل ليس وصفاً لما حدث، بل تفكيكاً للبنى العميقة التي صنعت الحدث، فحين يفهم المجتمع أن الحرب لم تكن صاعقة نزلت من السماء، بل سلسلة خيارات بشرية، تتقدم ذاكرة الردع خطوة أخرى نحو الاستقرار، إذ يصبح المجتمع قادراً على محاسبة تاريخه، وعلى مساءلة سردياته الداخلية، وعلى رؤية الخطر قبل أن يتحول إلى كارثة.
الأداة الثالثة هي التقييم الأخلاقي، فالحرب التي تُروى بلا بعد أخلاقي تتحول بسهولة إلى خطاب بطولي، أما الحرب التي تُفهم بوصفها مأساة إنسانية، فإنها تجعل من ذاكرة الردع قوة روحية قبل أن تكون قوة معرفية.
التقييم الأخلاقي يجيب عن سؤال: ما معنى أن نخسر مجتمعاً من أجل مكاسب عابرة؟ وكيف يمكن إقامة حياة مشتركة في ظل ندوب لا تزال تنزف؟ وهو ما يمنح المجتمع معيارًا لتحديد قيمة السلم ومكانة الإنسان في قلب الوجود الاجتماعي.
الأداة الرابعة هي توجيه السلوك، وهي المرحلة التي يتحوّل فيها الوعي إلى ممارسة، فذاكرة الردع لا تتحقق حين يُحزن الماضي وحده، بل حين يُعيد تشكيل السلوك الجمعي: في التعليم، في الإعلام، في السياسة، في الخطاب الديني، وفي مراكز القوى الاجتماعية، حين يدرك الجيل الجديد أن الحرب ليست بطولة تُحكى، بل جرح يُتجنّب، عندها فقط تتجذّر ذاكرة الردع في العمق الاجتماعي.
ومع التحول الرقمي الذي يعيشه العالم، أصبحت ذاكرة الردع أكثر تعقيداً وأكثر هشاشة في الوقت نفسه، فالتوثيق الرقمي يسرّع تراكم الذاكرة، لكنه يفتح المجال أمام التضليل، والتحريض، والاستقطاب، وتصبح مهمة مجتمع ما بعد الحرب ليست فقط إعادة بناء ذاكرة سليمة، بل أيضًا حماية الذاكرة من التشويه الرقمي، فالمحتوى الرقمي، بما يمتلكه من سرعة وانتشار، قادر على تدمير أي إنجاز في وعي الردع إن تُرك بلا حوكمة أو مساءلة.
هنا، تتداخل ذاكرة الردع مع مشروع إعادة بناء الهوية الوطنية، فالمجتمع الذي لا يمتلك هوية جامعة لن يمتلك ذاكرة جامعة، والذاكرة التي تُختطف من قبل جماعة أو حزب أو طائفة تتحول من ذاكرة ردع إلى ذاكرة حقد؛ لذلك تمثل السردية الوطنية الجامعة، في مجتمع ما بعد الحرب، الإطار الذي يضمن للذاكرة أن تكون ملكًا للجميع، لا سلاحًا بيد أحد.
والأمر اللافت أن ذاكرة الردع لا تتأسس دفعة واحدة، بل تتشكل عبر الزمن: عبر التكرار، والتعليم، والنقاشات العامة، والطقوس الاجتماعية التي تُعيد إنتاج المعنى، فهي مشروع بعيد المدى، لا يتحقق بقرار سياسي بل ببناء طويل للوعي، وكما أن الحرب نتيجة تراكم سرديات مضلِّلة، فإن السلم أيضًا نتيجة تراكم سرديات منفتحة ونقدية وعاقلة.
في النهاية، يمكن القول إن مجتمع ما بعد الحرب لا يُقاس بقدرته على إعادة بناء الجسور والمباني، بل بقدرته على إعادة بناء ذاكرته، فالمبنى يمكن أن يُشيَّد في أشهر، أما الذاكرة فتحتاج إلى جهد جماعي طويل وصبور، وذاكرة الردع ليست ترفاً فكرياً، بل شرطاً لبقاء المجتمع في منطقة الأمان؛ لأنها تبني داخل الفرد حساسية أخلاقية تجاه العنف، وتمنح الجماعة القدرة على رؤية الخطر قبل وقوعه، وتؤسس في الدولة نظاماً من الرقابة المعرفية – السياسية التي تجعل قرار الحرب، في المستقبل، قراراً شبه مستحيل.
إن مجتمعاً ينجح في بناء ذاكرة ردعيّة راسخة هو مجتمع يودّع الحرب فعلًا، لا لأنه أنهى المعركة، بل لأنه امتلك القدرة على منع بدايتها المقبلة.