banarlogo

التوظيف في ظل نظام البعث بين الانتماء والإقصاء

يُعد مبدأ تكافؤ الفرص ركيزة أساسية لبناء العدالة الاجتماعية، فحين يتمكن المواطن من الوصول إلى الفرص المتاحة بناءً على قدراته وكفاءته، لا على خلفيته الاجتماعية أو انتمائه السياسي أو الجغرافي، فإن العدالة تتحقق، والطاقات تُستثمر، والتنمية تتسارع، بالمقابل فإن غياب هذا المبدأ يؤدي إلى الإقصاء والتهميش، ويكرس الطبقية والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي، ويهدد الاستقرار المجتمعي، فمبدأ تكافؤ الفرص ليس مفهوماً قانونياً أو أخلاقياً فقط، بل شرط وجودي لأي نظام يسعى إلى الشرعية، إلا أن هذا المبدأ كثيرا ما يتعرض للانتهاك والتصدع في ظل الأنظمة الشمولية التي تقوم على الولاء السياسي وتقديس السلطة، وفي هذا السياق تمثل تجربة نظام البعث في العراق، نموذجاً واضحاً لتغليب الولاء الحزبي على الكفاءة المهنية في التوظيف والإدارة والتعيين في المناصب، وهو ما أسهم في تكريس التفاوت والتمييز الوظيفي على أسس سياسية وولاءات حزبية.

بناءً على ما تقدم يتضح من الوثيقة المرفقة ربطاً والموقعة من قبل رئيس ديوان الرئاسة أحمد حسين خضير، أنها تخالف أدنى مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، هذه الوثيقة التي تحمل العدد (10205) في 10 /5/ 1998 عبارة عن قرار صادر من ديوان الرئاسة تم تعميمه بكتاب سري إلى (13) جهة رسمية، بدءاً من أمانة مجلس الوزراء ومكاتب الوزارات كافة، فضلاً عن الهيئات والأمانات والمجالس التشريعية وديوان الرقابة المالية ودار الحكمة وجميع مفاصل الدولة، وجاءت هذه الوثيقة تحت عنوان – اسبقيات التعيين – ورد منطوق الوثيقة بصيغة آمرة صريحة، مجردة من عبارات التحية أو المجاملة المتعارف عليها؛ مما يُضفي عليها طابعاً رسمياً حازماً يُعبر عن سرعة في التنفيذ وإلزام قانوني لا يحتمل التأويل والاجتهاد ليؤكد بعبارة: تقرر ما يأتي: تكون أسبقية التعيين في الوظائف الشاغرة في الوزارات والهيئات غير المرتبطة بوزارة لسد احتياجات ملاكها من الموظفين الجدد وفق شروط التعيين في هذه الوظائف وكما يأتي:

  • أصدقاء السيد الرئيس القائد

  • فدائييّ صدام

  • متدربيَ يوم النخوة

 يلحظ أن الوثيقة المرفقة تعارض تماما دستور العراق المؤقت 1970، الذي نص في الباب الثالث الخاص بالحقوق والواجبات الأساسية/ المادة التاسعة عشرة على: أن تكافؤ الفرص لجميع المواطنين حق مضمون في حدود القانون، في حين نصت المادة الثلاثون على أن حق المساواة في تولي الوظائف العامة يكفلها القانون، وأن الوظيفة العامة أمانة مقدسة وخدمة اجتماعية، قوامها الالتزام المخلص الواعي بمصالح الجماهير وحقوقها وحرياتها وفقاً لأحكام الدستور والقانون، أما المادة الثانية والثلاثون فقد نصت على أن العمل حق تكفل الدولة توفيره لكل مواطن قادر عليه، وهو شرف وواجب مقدس على كل مواطن قادر عليه تستلزمه ضرورة المشاركة في بناء المجتمع وحمايته وتطويره وازدهاره، وتكفل الدولة تحسين ظروف العمل ورفع مستوى العيش والخبرة والثقافة لجميع المواطنين العاملين.

والجدير ذكره أن شرط الانتماء للحزب وعدم وجود مؤشر أمني على العائلة وحتى الدرجة الرابعة هي الأخرى من الشروط التي وضعها نظام البعث لتتعين في الوظائف المختلفة وهي من العوامل التي أخلت بتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص، والوثيقة المرفقة ربطاً والصادرة من مديرية أمن محافظة ميسان تعزز ما ذهبنا إليه، فهذه الوثيقة التي تحمل العدد (3350) في 17 /2 / 1995 التي جاءت بعنوان – تعيين – تذكر الوثيقة أن هناك مواطنة تدعى سهاد عباس عذيب الوائلي قدمت طلباً للتعيين في المنشأة العامة للسكر في ميسان وبما أن في كل مؤسسة أو منشأة هناك لجنة أمنية فإن هذه الأخيرة خاطبت مديرية أمن محافظة ميسان بخصوص بيان رأي حول إمكانية تعيين المومأ إليها بحسب كتابها المرقم (13/1) في 22/1/1995، وتذكر الوثيقة: (أنه نتيجة التحقيق السري عنها تبين لنا بأنها حسنة السيرة والسلوك، وكذلك عائلتها من القومية العربية وأنها من مواليد 1968 خريجة إعدادية الزراعة – بعثية بدرجة مؤيد، ولم تشترك بصفحة الغدر والخيانة – بحسب تعبير الوثيقة – لكن لديها أشقاء كل من عباس أعدم بسبب انتمائه لحزب الدعوة، ورشاد عباس عذيب اشترك في صفحة الغدر والخيانة …) واختتمت الوثيقة في السطر الأخير ( نرجو التفضل بالاطلاع وبيان رأيكم حول إمكانية تعيينها .. ونقترح عدم الموافقة وإعلامنا).

الوثيقة الثالثة المرفقة ربطاً صادرة من مديرية أمن محافظة ذي قار، وموجهة إلى مديرية الأمن العامة، تحمل العدد (2173) في 18 /11 /1985، والوثيقة جاءت بناءً على كتاب سابق من اللجنة الأمنية في المنشأة العامة لتصفية النفط تحمل الرقم (66) في 1/6/ 1985 تطالب ببيان رأي حول تعيين المواطن شريف مطشر طعيمة، ويتضح من الوثيقة كيف أن هذا المواطن العراقي مُنع من التعيين مهندساً في وزارة النفط، / المنشأة العامة لتصفية النفط في المنطقة الجنوبية ، ليس لنقص في كفاءته أو سوء سلوكه، بل لأن شقيقه المنتمي للحزب الشيوعي قد أُعدم ، وعلى الرغم أن المواطن كان حسن السير والسلوك ومستقل سابقًا و”مؤيد في حزب البعث”، إلا أن تهمة صلة القربى كانت كفيلة بسلبه حقه في العيش الكريم والوظيفة.

يلحظ من خلال هذه الوثائق وغيرها كثير أن نظام البعث يشرط عدم وجود أي مؤشر أمني لدى من يروم التعيين وحتى الدرجة الرابعة وهي من الشروط التي لا يمكن تجاوزها، وهناك لجنة أمنية في كل دائرة تتولى مخاطبة مديريات الأمن لتتحرى عن صاحب الطلب، ولاشك أن موضوع الموافقات الأمنية، وشمول العقوبة إلى الأقارب حتى الدرجة الرابعة أسهم بوجود تبعات اجتماعية واقتصادية ونفسية كبيرة، وأسهم في حرمان شرائح اجتماعية واسعة من امتيازات وحقوق يستحقونها.

أما في القانون الدولي لحقوق الإنسان فيعد مبدأ تكافؤ الفرص من المبادئ الجوهرية التي نصت عليها المواثيق والأعراف الدولية، ويشكل حجر الزاوية في بناء أنظمة قانونية عادلة ومجتمعات ديمقراطية قائمة على احترام الإنسان، وقد أولى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966، والذي يُعد من أهم الوثائق الدولية التي تُكرّس حقوق الإنسان الأساسية اهتماما بالغاً بهذا المبدأ، مؤكدًا ضرورة المساواة أمام القانون، ومنع جميع أشكال التمييز، وضمان التمتع بكافة الحقوق على أساس من العدالة والموضوعية، إذ نصت المادة (25) من العهد الدولي على أن يكون لكل مواطن دون أي وجه من وجوه التمييز الحقوق المتعلقة في إدارة الشؤون العامة، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية، وأن تتاح له على قدم المساواة عموما مع سواه، فرصة تقلد الوظائف العامة في بلده.

وتعد المادة (26) من العهد الدولي واحدة من أبرز المواد التي كرّست مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، إذ جاء فيها: أن جميع الأشخاص متساوون أمام القانون ويحق لهم التمتع بحماية القانون على قدم المساواة دون أي تمييز، ويجب أن يحظر القانون أي تمييز ويكفل لجميع الأشخاص الحماية المتساوية والفعالة ضد أي تمييز لأي سبب، كالعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو النسب أو غير ذلك.

أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فالمواد من (22-27) تتضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كالحق في الضمان الاجتماعي، والحق في العمل، والحق في مستوى معيشة لضمان الصحة والرفاهية، والحق في التعليم، والحق في المشاركة في الاشتراك في المجتمع الثقافي.

 إن ممارسات حزب البعث في هذا المجال لم تكن مجرد أخطاء إدارية أو تصرفات عارضة اقتضتها ظروف معينة أو ردة فعل إزاء أحداث محددة، بل سياسات ممنهجة أنتجت هشاشة مجتمعية وانفصالًا تدريجيًا بين الشعب والدولة، وخلق هذا الواقع بيئة من الإحباط الجماعي، وأدى إلى ظاهرة -هجرة العقول- نحو الخارج، وزاد من معدلات الفساد والمحسوبية داخل الجهاز الإداري، فقد خضع التوظيف لآلية فرز أيديولوجي ترتكز على مدى التزام الفرد بخط النظام، وغالباً ما يُشترط للحصول على وظيفة عامة تقديم ما يثبت النشاط الحزبي، أو على الأقل الحصول على تزكية من كوادر الحزب، وقد تجاوزت هذه الممارسة حد التوظيف الإداري، لتطال التعيين في المؤسسات الأكاديمية، والقطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والقضاء، وهكذا تم إقصاء شريحة واسعة من الكفاءات المستقلة، لا لخلل في مؤهلاتها، بل لعدم تطابقها مع البنية الحزبية المفروضة.