banarlogo

نظام البعث: تعذيب المتهم البريء حتى الموت

في مقطع فيديو موثق، يظهر علي حسن المجيد، الملقب بـعلي كيمياوي، وهو أحد أشرس الرموز الدموية في نظام البعث، موجهاً أوامر مباشرة وصادمة إلى عناصر الأجهزة الأمنية في النظام، يحثّهم بلهجة قاسية خالية من الرحمة، على انتزاع الاعترافات من المعتقلين، حتى وإن كانوا، بحسب توصيفه – أبرياء – ويؤكد علي كيمياوي، دون مواربة أو تحفظ، أن استخدام كافة الوسائل والتقنيات العنيفة للتعذيب مسموح به، بل ومطلوب، حتى لو أدى ذلك إلى إزهاق أرواح الضحايا تحت وطأة التعذيب، وهذا الخطاب لا يتردد في إضفاء شرعية على ممارسات تنتهك أبسط المبادئ الأخلاقية والإنسانية، وتخرق جميع المواثيق الدولية التي تُعنى بحقوق الإنسان.

يتحدث المجيد في التسجيل بلغة واضحة لا تقبل الالتباس، ولا تترك مجالاً للتأويل، إذ يؤكد بصوت مفعم بالثقة والتأييد والاطمئنان أن انتزاع الاعترافات من المتهمين حتى وإن كانوا أبرياء، بحسب تعبيره ينبغي أن يتم باستخدام جميع الوسائل والطرق، بما في ذلك التعذيب الجسدي والنفسي، من دون أي قيود قانونية أو اعتبارات أخلاقية، بل ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حين يمنح عناصر الأمن صلاحية إيقاع الموت بالضحايا، وكأن أرواح البشر لا قيمة لها في ميزان السلطة، وهو بهذا يعطي الضوء الأخضر لعناصر الأمن بفعل أي شيء في سبيل انتزاع الاعترافات من الموقوفين؛ لذلك لا عجب أن نرى العديد من الضحايا اعترفوا تحت وطأة الألم بأفعال لم يرتكبوها أو انتماءات لا يعرفون عنها شيئاً، خشية التعذيب والتنكيل والقسوة، يقول المجيد بعبارات صادمة :(نعم، مسموح لك، هذه تعليمات السيد الرئيس القائد، موجودة عندكم في التلفزيون ومعلقة، وكل واحد عنده تعليمات ووصايا، ولك الحق، كمحقق، أن تستخدم أساليبك مع المواطن إلى حد الموت.. نعم، استخدمها بأقصى طاقتها) ثم يؤكد كلامه بصفعة قوية على صدره، في تعبير فج عن قناعة راسخة واعتقاد ثابت رأي متأصل لا يقبل الشك.
إن هذا التصريح، بلهجته المباشرة الخالية من أي غطاء إنساني، لا يمكن اعتباره مجرد رأي شخصي أو انفعال فردي، بل هو مظهر لمنهجية ثابتة ومعتمدة، تمثل جزءاً من العقيدة السياسية لنظام البعث، وتزداد المأساة عمقاً حين يظهر رأس السلطة ذاته – في تسجيل فيديوي موثق آخر- ليعزز ما قاله المجيد، ويضع الإطار العقائدي العنيف لهذا النمط من الحكم، إذ يقول ببرود: (حتى لو قتلنا الآلاف، فلن يرف لي جفن، طالما أنهم يعارضون الحزب والثورة)، وهذا التسجيل الموثق يكشف النقاب عن طبيعة نظامٍ استند في بقائه إلى العنف الممنهج، وشرعن القسوة والتنكيل كأدوات لبقائه واستمراره في الحكم، فغابت العدالة، وذُبِح الإنسان، لا لذنبٍ اقترفه، بل لمجرد الشك في ولائه، أو بسبب اجتهاد فكري أو موقف سياسي معين.
من جهة أخرى يؤكد التسجيل أن المتهم في نظر البعث مذنب حتى تثبت براءته، بالعكس تماماً من القواعد الشرعية والقانونية التي تعدّ المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته، وأن الحالة الافتراضية تستند إلى براءة المتهم وحسن النية في تصرفاته وأفعاله وهو مبدأ دستوري وقانوني غاية في الأهمية.

مفهوم التعذيب

يُعَرّف التعذيب بحسب القانون الدولي على أنه اي فعل مقصود يراد منه إلحاق ألماً بمواطن ما، سواء كان هذا الألم جسدياً أم نفسياً، بغرض انتزاع معلومات، أو الحصول على اعترافات، أو معاقبة المواطن على سلوك معين وتصرف ما، ويشترط هذا التعريف أن يتم الفعل من قِبل موظف رسمي أو بموافقته أو رضاه؛ مما يُضفي على الجريمة صفة الرسمية، وهذا الأمر واضح وجلي في عمليات التعذيب التي مارستها أجهزة نظام البعث فهي أجهزة رسمية تأسست على وفق أنظمة وقرارات صادرة من أعلى المستويات، وجاءت أفعالها برضا أصحاب القرار ومباركتهم، بل بتوجيه مباشر وملزم من قبلهم، وقد ورد هذا التعريف بصيغته الأكثر دقة في المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984، وهو ما شكل لاحقًا الإطار المرجعي الأساسي في جميع التشريعات الدولية والوطنية ذات الصلة.

منع التعذيب في القانون الدولي

يُعد منع التعذيب من أكثر المبادئ رسوخاً وثباتاً في القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، فالتعذيب لا يخالف حقوق الموطن فحسب، بل ينتهك الكرامة الإنسانية نفسها، وأنه يُشكل أحد الممارسات التي ترفضها جميع المواثيق الدولية تقريباً، ويُعامل كمعتدى عليه لا يمكن التنازل عنه أو تسويغه تحت أي ظرف، ويُعدّ حظر التعذيب من الحقوق غير القابلة للانتقاص أو التقييد، أي لا يمكن تسويغ انتهاكه تحت أي ظرف من الظروف، بما في ذلك حالات الطوارئ العامة، أو النزاعات المسلحة، أو الضرورات الأمنية، هذا الحظر المطلق يجعله من القواعد الآمرة في القانون الدولي العام ، وهي قواعد تتسم بالعلو على باقي القواعد، ولا يجوز مخالفتها أو الاتفاق على تجاوزها، فقد نصت المادة (7) من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية على أنه لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة، أما المادة الثامنة من العهد نفسه فقد نصت على حظر جواز استرقاق أحد أو إخضاعه للعبودية، أما المادة (14) من العهد فقد عدّت أن من حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعدّ بريئاً إلى أن يثبت عليه الجرم قانوناً، ولا يجوز إكراهه على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بذنب لم يرتكبه
اما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) فقد أرسى في مادته الخامسة مبدأً أساسيًا ينص على عدم جواز تعريض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو اللاإنسانية أو المُهينة، وتعد اتفاقية مناهضة التعذيب (1984) الوثيقة الأهم في المنظومة الدولية المتعلقة بمنع التعذيب، وقد أنشأت التزامات قانونية واضحة على عاتق الدول الأطراف، من أبرزها: تجريم التعذيب في التشريعات الوطنية وإجراء تحقيقات مستقلة وفورية عند ورود أي ادعاء بالتعرض للتعذيب.
المصادر
– اتفاقية مناهضة التعذيب، الأمم المتحدة، 1984.
– العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، 1966.
– البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب، 2002.