banarlogo

الاستفادة من التجربة الألمانية لتوثيق جرائم البعث في العراق

رياض عبد العزيز فرحان

لا يخفى أن التجربة التي مر بها الشعب الألماني تحت حكم الحزب النازي بقيادة الطاغية هتلر تلتقي بأوجه شبه كبيرة مع الحكم البعثي المجرم في العراق؛ ولذلك يمكن أن تُشكِّل التجربة الألمانية في التعامل مع ماضيها الشمولي وتوثيق جرائم النازية، وصولًا إلى محاكمات نورنبيرغ (Nürnberg) لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي حوكم فيها المنخرطون في تنفيذها، نموذجًا قيّمًا للعراق في جهوده المستمرة لتوثيق جرائم حزب البعث وتقديم مرتكبيها إلى العدالة، لينالوا جزاءهم العادل ويكونوا عبرة لكل من يفكر بظلم الآخرين مستغلًا موقعه القيادي.
وتستند الاستفادة من التجربة الألمانية على محاور أساسية عدة:
  1. الإطار القانوني والمحاسبة القضائية اعتمادًا على مبدأ الولاية القضائية العالمية:
أ – يمكن الاستفادة من التجارب الحديثة التي اعتمدت فيها المحاكم الألمانية على مبدأ الولاية القضائية العالمية (Universal Jurisdiction) لمحاكمة أفراد متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دول أخرى، مثلما حدث في قضايا الجرائم في جنوب إفريقيا، ومن شأن هذا المبدأ أن يُلهم العراق لتعزيز آليات المساءلة المحلية أو بالتعاون مع جهات دولية متخصصة. وقد يمثل هذا حلًا ناجعًا فيما لو أُضيفت فقرة (المساعدة على تسليم أو محاكمة المتهمين بتنفيذ جرائم) إلى البروتوكولات والاتفاقيات التي تنظم العلاقات بين العراق والدول الأخرى.
ب- يجب اعتماد قرار يعمل على إنشاء مؤسسات متخصصة، مثل تأسيس محاكم أو هيئات قضائية على غرار (المحكمة الجنائية العراقية العليا) التي تأسست بالفعل، وذلك لضمان محاكمة عادلة وموثقة لجرائم البعث (الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب)، ويجب التركيز على إجراءات قانونية صارمة وتوثيق دقيق للأدلة، كما حدث في محاكمات نورنبيرغ بعد الحرب العالمية الثانية، على أن تبقى هذه المحاكم والهيئات مستمرة في عملها إلى أن يُغلق آخر ملف من ملفات جرائم حزب البعث في العراق، وألّا يقتصر عمل المحكمة على محاكمة رموز النظام، بل يشمل كل من أسهم في تلك الجرائم مهما كان منصبه القيادي أو الوظيفي.
  1. التوثيق المنهجي وحفظ الأدلة:
أ – المركزية في جمع وحفظ الوثائق، وهذا يعني إنشاء أرشيف وطني ضخم ومستقل لجمع وتصنيف وحفظ كافة الوثائق الرسمية السرية والعلنية للنظام البعثي المجرم، إلى جانب الأدلة المادية، وسجلات السجون والمعتقلات، على غرار الجهود التي بُذلت لحفظ وثائق النازية، ويجب أن تكون هذه العملية منهجية وشفافة لحماية الأدلة من التلف أو التلاعب، وسيكون من المفيد جدًا الاستفادة من التجربة الألمانية في تشكيل لجنة من الموظفين في كل وزارة يتخصص عملها في مراجعة أرشيف الوزارة، والتحقق من كل وثيقة يمكن الاستفادة منها لملاحقة المجرمين الذين كانوا يزرعون الخوف والرعب في كل زاوية من زوايا العراق.
ب – توثيق شهادات الضحايا وذلك من خلال إعطاء الأولوية لشهادات الناجين والضحايا، وتوثيقها بشكل احترافي ومحايد (صوتي، مرئي، مكتوب)، لتكون جزءًا لا يتجزأ من الأدلة القانونية والتاريخية، فهذه الشهادات تُعد ضرورية لتحديد حجم الجرائم وتأثيرها البشري.
  1. مكافحة الإفلات من العقاب والتطهير:
أ – تفكيك البنية الأيديولوجية من خلال تطبيق آليات لتفكيك البنية الأيديولوجية والقيادية للنظام السابق، مع الحرص على أن تكون عملية “اجتثاث البعث” (De-Ba’athification) مبنية على معايير واضحة وسلوكيات إجرامية موثقة، وليس فقط على الانتماء الحزبي، لتجنب الانتقادات وضمان العدالة، ويمكن الاستفادة من الدروس المستخلصة من عمليات مماثلة في ألمانيا تحت قانون (اجتثاث النازية) الساري المفعول إلى هذا اليوم، والذي يعمل على مكافحة كل قول، أو فعل، أو إشارة، أو رمز يحمل صفة من ثقافة العهد البائد.
ب – ضمان نشر شفاف لتفاصيل المحاكمات والجرائم الموثقة لرفع الوعي العام ومكافحة أي محاولات لإنكار أو تمجيد الماضي، كما فعلت قوات الحلفاء في نشر أخبار محاكمات نورنبيرغ بكل تفاصيلها بين الشعب الألماني، فلا يخفى أن توثيق الجرائم ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو أساس لـبناء ذاكرة وطنية سليمة ومنع تكرار المظالم.
ج – يجب أن تُدرج الجرائم الموثقة لنظام البعث في المناهج التعليمية، لتعليم الأجيال الجديدة تاريخ بلادهم، وحجم المآسي التي عانت منها، وتعزيز وعيهم بأهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان.
د – إقامة متاحف ثابتة ومتنقلة وأماكن للذكرى ومراكز توثيق في مواقع السجون ومقابر الإبادة الجماعية، لتكون أماكن حية للذكرى والتعلم، على غرار المتاحف التي أُنشئت في ألمانيا لحفظ ذكرى الضحايا وتوثيق جرائم النازية، وربما تكون فكرة المتاحف المتنقلة في دول أخرى تجربة مفيدة من تجارب ألمانيا لنشر معاناة الشعب الألماني وتذكير شعوب العالم بها، لكسب التأييد والتعاطف الدولي مع ضحايا الشعب العراقي الذين يشعرون بالإهمال في هذا الجانب.
وفي الختام، فإنني أدعو كل العاملين في مراكز التوثيق في العراق إلى زيارة ألمانيا، والاطلاع على ما توفره التجربة الألمانية لرسم خارطة طريق، تساعد على وضع خطط متكاملة للتعامل مع الإرث الثقيل للماضي، ترتكز على العدالة القضائية، والتوثيق الدقيق للأدلة، والحفاظ على الذاكرة الوطنية كدرع ضد النسيان، وضمان عدم تكرار الاستبداد.
ولا يفوتنا أن نُشير إلى أن الاستفادة من تجارب الشعوب تُغني التجربة وتساعد العاملين على تجنب تكرار الأخطاء التي وقعت فيها تلك التجارب.
من هنا، أرجو من أعضاء المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرّف التابع للعتبة العباسية المقدسة والذي يضمّ توثيق جرائم البعث دراسة هذه المقترحات فيما لو كانت مفيدة في إغناء تجربة المركز، الذي يُعد من أكثر مراكز التوثيق نجاحًا على المستوى العربي، بشهادة كثير من الباحثين والمتخصصين في هذا الشأن في المانيا، والذين اطلعوا على ما نقلته لهم من الأعمال الكبيرة للمركز في مجال التوثيق ونشر البيانات.