د.محمد جبار الكَريزي
تمهيد:
في اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري (30) آب من كل عام، يقف العراقيون أمام واحدة من أعمق المآسي الإنسانية التي ارتكبها النظام السابق، حين حوّل سياسة الاختفاء القسري إلى أداة لقمع المجتمع، وبث الرعب بين مكوناته.
فقد اختفى عشرات الآلاف من أبناء الشعب العراقي، من الشيعة بعد انتفاضة 1991، ومن الأكراد خلال حملات الأنفال 1988، وما تزال المقابر الجماعية المكتشفة في مختلف أنحاء البلاد شاهداً دامغاً على وحشية تلك المرحلة.
يمثل هذا اليوم العالمي مناسبة لتسليط الضوء على واحدة من أبشع الانتهاكات الإنسانية التي شهدها العالم المعاصر: الاختفاء القسري، وهي ممارسة لم تقتصر على الأنظمة الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية، أو النزاعات الداخلية في آسيا وإفريقيا، بل عرفها العراق بصورة مأساوية تحت حكم النظام السابق.
الحالة العراقية: نموذج مأساوي
في العراق، تحوّل الاختفاء القسري إلى سياسة ممنهجة لنظام المجرم صدام ضد شرائح واسعة من أبناء الشعب العراقي، ومنها:
• الشيعة: تعرّضوا لحملات اعتقالات جماعية بعد انتفاضة آذار 1991، إذ اختفى عشرات الآلاف من الشباب والرجال في السجون والمعتقلات السرية، وما زالت مقابر جماعية تُكتشف حتى اليوم شاهدة على تلك الجرائم.
• الأكراد: شهدوا حملات منظمة عُرفت بـ (الأنفال) (1988)، إذ اختفى آلاف القرويين الأكراد، بينهم نساء وأطفال، نُقلوا إلى معسكرات ومواقع إعدام سرية.
لقد كان الهدف من هذه الممارسات بث الرعب داخل المجتمع، وتصفية المعارضين، وإخضاع المكونات العراقية بالقوة.
آثار إنسانية ونفسية
• الضحايا: عاش الضحايا بين جدران المعتقلات في خوف دائم من الموت والتعذيب.
• الأسر: فقد وقعت بين اليأس والأمل الكاذب، تبحث عن مصير أحبائها في أقبية المخابرات، أو عبر الوعود الرسمية الكاذبة.
• الحالة الاقتصادية: تفاقمت المأساة الاقتصادية والاجتماعية بفقدان العائل الرئيس للأسرة، وحرمانها من المساعدات لعدم وجود شهادة وفاة؛ مما جعل آلاف العوائل مهمّشة اجتماعياً واقتصادياً.
• النساء: كنّ في مقدمة من تحمل العبء، بين تربية الأيتام، والسعي لكشف الحقيقة، وغالباً ما تعرضن للملاحقة والتهديد.
البعد القانوني والحقوقي في القانون الدولي
• يُصنَّف الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية، لا تسقط بالتقادم، بحسب نظام روما الأساسي (2002).
• للعائلات حق المطالبة بالحقيقة والعدالة والتعويض، وهو ما زال مطلباً أساسياً لعشرات آلاف العوائل العراقية.
• العراق، بعد 2003، انضم إلى الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، في خطوة لتصحيح الماضي وضمان عدم تكراره.
تجربة العراق
توضح أن الاختفاء القسري ليس مجرد (انتهاك لحقوق فردية)، بل هو جريمة منظمة ضد المجتمع بأسره، وأن إحياء هذا اليوم العالمي يجب أن يكون:
• تذكيراً بما حدث.
• دعوة للمجتمع الدولي لدعم العوائل العراقية في ملف كشف الحقيقة والمقابر الجماعية.
• تحذيراً من أن الصمت على مثل هذه الجرائم يفتح الباب لتكرارها.
مؤسسات التوثيق
لا بد من التأكيد على الدور المحوري الذي تضطلع به المؤسسات التوثيقية، ومنها: المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف في معالجة ملف الاختفاء القسري، إذ جعل من رسالته الوطنية والإنسانية ما يأتي:
• توثيق الحقائق والأدلة: العمل على رصد الجرائم المرتبطة بالاختفاء القسري وتوثيقها، وحفظ الأدلة التاريخية والقانونية بما يضمن عدم ضياعها أو طمسها.
• حفظ الشهادات والذاكرة الجمعية: جمع شهادات الناجين وذوي الضحايا وتحويلها إلى مادة علمية موثقة، تُحفظ للأجيال القادمة كجزء من الذاكرة الوطنية.
• إبراز الأبعاد الإنسانية للمأساة: نقل أصوات العائلات التي ما زالت تبحث عن مصير أحبائها، وتسليط الضوء على معاناتهم الممتدة نفسياً واجتماعياً واقتصادياً.
• دعم المسار العدلي والقضائي: الإسهام في تمكين الضحايا وعوائلهم من الوصول إلى حقوقهم القانونية، والمساهمة في منع إفلات مرتكبي جرائم الاختفاء القسري من العقاب.
إن الجهود التي يبذلها المركز تمثل جسر الحقيقة بين الماضي والمستقبل، فهي تعيد الاعتبار لضحايا حاول الطغيان محو وجودهم من الذاكرة، وتضمن أن تكون معاناتهم حاضرة في ضمير المجتمع.
وفي الوقت الذي يحيي فيه العالم اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري، يذكّر المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف بأن هذه المأساة ليست مجرد صفحة من الماضي، بل قضية مستمرة تتطلب كشف الحقيقة، وإنصاف الضحايا، وإرساء العدالة.
ختاماً، في اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري، نستذكر في العراق مأساة عشرات الآلاف من الأبرياء الذين غيّبهم النظام السابق قسراً، من الشيعة والأكراد وغيرهم، في محاولة لإسكات أصواتهم وبث الرعب في المجتمع.
وما زالت آثار هذه الجريمة شاهدة على أن العدالة والحق في معرفة الحقيقة لا يسقطان بالتقادم. فلنقف جميعاً ضد تكرار مثل هذه الممارسات، ولنساند عوائل الضحايا في مطلبهم المشروع بالعدالة والإنصاف.
وانطلاقاً من هذه المأساة، نقترح جملة من المقترحات العملية للتوثيق، من شأنها أن تسهم في حفظ الذاكرة الوطنية، وتعزيز مكانة العراق في المحافل الدولية، وضمان حقوق الضحايا ضمن المنظومة الأممية، وهي كالآتي:
1. قاعدة بيانات وطنية – أممية: إنشاء قاعدة بيانات رقمية موحدة لتوثيق كل حالات الاختفاء القسري في العراق، مرتبطة بآليات الأمم المتحدة، تتيح للضحايا وذويهم تسجيل بياناتهم، مع حفظ سرية المعلومات.
2. الأرشيف الشفوي للضحايا: جمع شهادات الناجين وذوي المختفين على شكل مقابلات مرئية ومسموعة، وحفظها ضمن مشروع (أرشيف إنساني) يُودَع في المكتبة الوطنية العراقية، مع نسخة لدى مجلس حقوق الإنسان في جنيف.
3. التوثيق الأكاديمي والإعلامي: إصدار (تقرير سنوي) عن حالات الاختفاء القسري في العراق، باللغتين العربية والإنكليزية، ليُعتمد مرجعاً أكاديمياً وحقوقياً أمام الهيئات الأممية، وليكون مادة إعلامية للضغط الدولي.
4. منصة دولية تفاعلية: إنشاء موقع إلكتروني تفاعلي بعنوان: (ذاكرة العراق المفقودة)، يتضمن خرائط تفاعلية، وقصص ضحايا، ووثائق رسمية، بحيث يصبح أداة علمية وتوعوية أممية في آن واحد.