الوثيقة المرفقة ربطاً صادرة من مديرية الأمن العامة إلى قيادة فرع بغداد العسكري لحزب البعث، تحمل العدد (45خ/164) في 3/9/1986 التي جاءت بعنوان طلب معلومات عن أحد الأشخاص الذي ذكر اسمه الرباعي مع لقبه، وهو عسكري برتبة نائب ضابط يسكن بغداد ، منطقة الحرية الثانية، ويبدو كما يتضح من متن الوثيقة أنها جاءت بناءً على طلب كتابي موجه من قبل قيادة الفرع إلى مديرية الأمن العامة يحمل الرقم (ف ب ع /80227) في 6/7/1986، وهذه الوثيقة شاهد حي على حقبةٍ من الزمن عانى فيها العراقيون من تضييق للحريات ومراقبة مكثفة؛ لأنها تكشف عن آليات المتابعة والملاحقة التي كانت تستهدف المواطنين، في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، والوثيقة تكشف أن نظام البعث لم يكن مجرد نظام سياسي، بل كان عبارة عن شبكة متشعبة من أجهزة المراقبة والتجسس تمتد إلى أعماق حياة المواطنين، فتُجهِز على الحريات.
محتوى الوثيقة يشير إلى معلومات عن التولد والقومية والسيرة والاتجاه السياسي، ومما يلفت النظر وجود حقل خاص بالمعلومات الأخرى، ذُكر فيه أن لهذا المواطن ابن عم تم إعدامه بسبب تستره على ابنه الهارب من الخدمة العسكرية، الذي أعدم هو الآخر مع أبيه، وبطبيعة الحال أن هذا السبب بنظر البعث يجعل جميع أقارب المعدوم تحت طائلة المراقبة والرصد من قبل الأجهزة الأمنية، فضلاً عما يتبع ذلك من نتائج وتبعات وآثار اقتصادية واجتماعية تنال أقارب المعدوم.
ومن خلال تحليل الوثيقة المرفقة يظهر أنها احتوت على جملة من المخالفات تتعلق بالتدخل في خصوصية المواطن، وهي من الانتهاكات التي منعتها المواثيق والاتفاقيات الدولية، فقد نص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة (17) على عدم جواز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، للتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته، ومن حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو المساس، أما المادة (18) من العهد المذكور فقد نصت على أنه لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ولا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما، أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، في حين نصت المادة (19) على أن لكل إنسان حقاً في اعتناق آراء دون مضايقة، ولكل إنسان حقاً في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين ، أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقد نصت المادة (12) على عدم جواز تعريض أحد لتدخُّل تعسُّفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمسُّ شرفه وسمعته، ولكلِّ شخص حقٌّ في أن يحميه القانونُ من مثل ذلك التدخُّل أو تلك الحملات.
وقد بينت الوثيقة وجود ابن عم معدوم للشخص المعني بالوثيقة، وبغض النظر عن عدم مشروعية قرار الإعدام فإن المواطن كان يعاقب على وجود معدوم ضمن أقاربه حتى الدرجة الرابعة، التي تشمل: ابن العم، وابن العمة، وابن الخال، وابن الخالة وأبناء إخوة الزوج أو الزوجة، وعم وعمة وخال وخالة والد الزوج أو الزوجة، وقد أسهم ذلك في حرمان شرائح اجتماعية واسعة من امتيازات وحقوق يستحقونها، فكان الشخص يُمنع من الالتحاق بالكليات العسكرية، أو السفر، أو فتح مشروع معين، ويمنع من حقه في إكمال الدراسات العليا، ووصل الأمر إلى منع زواج العسكري من امرأة في حال أن أقاربها معدوم، وحدثت حالات كثيرة لزيجات لم تتم، الأمر الذي أسهم في وجود انعكاسات نفسية كبيرة في المجتمع.
لقد خالف نظام البعث مبدأ شخصية العقوبة الذي أكدته المادتان (47 و48) من قانون العقوبات باعتباره الأساس القانوني الذي يفترض أنه يضمن تطبيق مبدأ شخصية العقوبة، إذ عرفت المادة (47) من قانون العقوبات العراقي الفاعل للجريمة هو من ارتكبها وحده أو مع غيره، وتظهر أهمية المادة (47) في تحديد المسؤولية والتمييز بين الفاعل والشريك، في حين تعرف المادة (48) من قانون العقوبات العراقي الشريك في الجريمة بأنه كل من حرّض على ارتكابها ووقعت بناءً على تحريضه، أو من اتفق مع غيره على ارتكابها فوقعت بناءً على الاتفاق، أو من أعطى الفاعل سلاحًا أو آلات أو ساعده بأي طريقة أخرى علمًا منه بالجريمة بهدف تسهيل ارتكابها، وهكذا يتضح أن نظام البعث قد حول القانون الجنائي إلى أداة سياسية للقمع، وجميع إجراءات أجهزة الأمن ترتكز على هذا الأساس.
ومن الناحية الدستورية نصت المادة الحادية والعشرون من دستور العراق 1970 على أن: أ ـ العقوبة شخصية. ب ـ لا تجوز العقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون جريمة في أثناء اقترافه، أما الدستور العراقي (2005)، فقد نصت المادة (19) ثامنا منه على شخصية العقوبة، وهو مبدأ دستوري، وليس قانونيا فقط.
إن سريان العقوبة على عائلة وأقارب الجاني يُعد مخالفة صريحة لمبدأ سيادة القانون، وتفريطاً تاماً بمبادئ حقوق الإنسان، فضلاً عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية والنفسية ونتائجها السلبية المباشرة، ووفقاً للمعايير الدولية فالأمر يتعارض مع الأعراف، والمواثيق الدولية، ومنها الملحق الثاني الإضافي إلى اتفاقيـات جنيـف عام 1977، وتحديداً في المادة السادسة المتعلقـة بالمحاكمـات الجنائية التي تنص في أحد بنودها على: أن لا يدان أي شخص بجريمة إلا على أساس المسؤولية الجنائية الفردية.