banarlogo

مفهوم الرجعية في الثقافة البعثية

د. رائد عبيس

عضو المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف

 

 

مفهوم الرجعية: استعمل مصطلح الرجعية في الثقافة البعثية بقصد الحط من شأن القوى السياسية والاجتماعية والدينية المنافسة لمشروعه السياسي قبل تفرده بالحكم، وإنهاء كل وجود للمعارضة، ولا سيما في مرحلة صدام حسين.

فصفة الرجعية يقصد بها التخلف، والتأخر، والرجوع إلى الوراء، بالضد من أفكار التطور، والتحديث، والتقدم، الذي يزعم البعث أنه يتبناها ويطبقها في مشروعه السياسي.

فالرجوع هو عكس التقدم، والعود هو عكس المجيء، فمجيء حزب البعث للعراق، ودخوله للبيئة العراقية بأفكار الوحدة، والحرية، والاشتراكية، زاعماً تبنيه منهج تقدمي بالضد من أفكار الإقطاعية، والنزعة الاجتماعية نحو الحكم الملكي، والأفكار الدينية ومتبنياتها المحافظة، بل حتى أفكار أحزاب الإسلام السياسي صنفت بهذا التوصيف، على الرغم من أنه يحمل شيئاً من الاختلاف الفكري عن التيارات الدينية المحافظة، فضلاً عن أحزاب القوى السياسية والقومية الأخرى من كرد ومسيح وغيرهما.

فالرجعية في التعريف المفاهيمي: هي نزعة تهدف إلى العودة إلى عهد سابق سواء كانت فكرة شخصية أو تيارية أو دعوة اجتماعية، تطالب بالرجوع إلى عهد كانوا قد ألفوه وفهموه واستقروا عليه؛ مما يدفعهم إلى المطالبة بإعادة الحالة الماضية على ما هي عليها، ورفض الواقع الجديد الذي يغير حياتهم، وأفكارهم، وقيمهم، وتقاليدهم، وعقائدهم.

فحزب البعث العربي الاشتراكي عد كل حزب سياسي معارضاً له، ومغايراً لتوجهاته وأفكاره، ومنافساً له في السلطة، على أنه حزب رجعي، ومتخلف، ولا يستحق التمثيل؛ لذلك اتجه حزب البعث إلى حظر جميع الأحزاب السياسية؛ لأنها رجعية بحسب تقييمه، وتفرد بالحكم وإدارة الدولة.

فأصبح هذا المصطلح يحمل طابعاً ظلامياً تجاه الآخرين، ووصمة للاتهام والتنكيل والملاحقة، حتى أن الكتب الرسمية والمخاطبات بين دوائر الدولة ودوائر الأمن، أخذت تأخذ بهذا المصطلح لوصف أعداء الحزب وضعه كشارة اتهام بحق المطلوبين لحزب البعث وقواه الأمنية.

فأكثر القوى السياسية والدينية اتهاماً بهذه الصفة كان حزب الدعوة الإسلامية، فأغلب الكتب الأمنية، والمخاطبات الرسمية، كانت تصف حزب الدعوة على أنه (حزب رجعي وعميل) وبناءً على هذه الصفة تمت ملاحقة أعضاء حزب الدعوة، ونفذت الإعدامات بهم، والإلقاء بهم في سجون الأمن.

فالرجعية كمفهوم جاء في سياق الثقافة البعثية، والأيديولوجية البعثية، كجزء من حربه الناعمة ضد خصومه، فأخذ ينسب لهم صفات ومسميات ألحقت بهم الدونية، والتخييب في الأوساط الاجتماعية، مثل: (مصطلح الزمر المخربة، أعداء الحزب، الفئة الرجعية، العملاء الرجعيين)، بل عد بشكل مباشر الأفكار الدينية، والممارسات، والطقوس، والعبادات والالتزام الديني، جزءاً من الرجعية وصفات الرجعيين، بل عد صدام حسين وبشكل دقيق كل من لم يوالِ الحزب ويخلص له رجعياً ويستحق العقاب؛ لأنه يمنع الحزب والثورة من التقدم، بحسب وجهة نظره وأيديولوجيته. فذكر صدام حسين ذات مرة في أحد اجتماعاته أن حصانة البعثي المخلص ببعثيته وولائه للحزب، كحصانة عمر بن الخطاب. فإذا كانت التقدمية البعثية تأخذ بالمنهج العلماني، في مقابل رجعية التيارات الدينية وثقافتها، فهي ها هنا تكون حاضرة في خطابه! وهذا يكشف عن ازدواجيته، وتناقضه الدائم، في كل متبنياته السياسية، والثقافية، والأيديولوجية.

فحزب البعث الصدامي تطرف كثيراً، في تناول هذا المصطلح وإسقاطه على الآخرين الخصوم؛ كذريعة للنيل منهم، وتصنيفهم وتحجيم أفكارهم.

مع أن الدلائل تشير إلى أن حزب البعث لم يغادر عقدة الماضي، ولا أمراض التراث، ولم يدر الدولة بطريقة توحي فعلا بتطبيق شعاره (الوحدة، الحرية، الاشتراكية) لا على المستوى المحلي، بحيث لم يكن متصالح مع شعبه! ولا على المستوى الإقليمي إذ حارب جيرانه الذين ألحق بهم وصف الرجعية، مثل النظام الإيراني وحكومة الخميني والنظام الكويتي. ولا حتى على المستوى الدولي، إذ وصف أنظمة شمولية شبيهة بنظامه بهذا الوصف أي (الرجعية) في دول كثيرة عبر العالم، مثل وصفه للإمبريالية والأنظمة الليبرالية على أنها أنظمة رجعية، عدوة للنزعة الاشتراكية التي يعدها جزءاً أساسياً من شعاره وأيديولوجيته؛ ونتيجة لأحكامه هذه عاش النظام البعثي الصدامي في عزلة دولية كبيرة.

فهو في عمق فلسفته الأيديولوجية لم يحسن إدارة مفهومي (البعث- والرجعية) في برامجه السياسية العملية، بل أوقع بينهما في صراع أيديولوجي كان نتيجته الخلط في براكماتية كل مفهوم، وتوظيفاته المناسبة. فلا من وصفهم بالرجعية، تراجعوا عن مشاريعهم، ولا من بعثهم تمكنوا من التقدم والتطور وتنمية الحياة في هذا البلد؛ لأن حزب البعث أشغل نفسه في فرض الأيديولوجيات أكثر من تلاقيها مع أيديولوجيات شريكة، كان من الممكن بهذه الشراكة أن يحقق شعاره نظرياً وعملياً، وهو بهذا الخطأ قد وقع في الرجعية المظلمة من دون أن يعلم.