د. قيس ناصر
لقد تطورت الدراسات المتعلقة بالمرأة والإبادة الجماعية بشكل كبير، وفي السنوات الأخيرة، ظهرت مؤلفات عديدة في الدراسات الغربية، منها: المرأة والإبادة الجماعية، والفهم النسوي للإبادة الجماعية، والجنس والإبادة الجماعية، والاغتصاب كسلاح حرب وإبادة جماعية، وغيرها من الكتب والدراسات.
في البدء ينبغي الإشارة إلى أن التوثيق والاستذكار ضرورة؛ لأن نسيان الإبادة على وفق رأي المفكر الفرنسي (جان بورديار) يدخل في عِداد الإبادة نفسها؛ لأنه إبادة للذاكرة والتاريخ والاجتماع.
وإبادة الذاكرة هنا تعني نسيان بعض الجوانب مثل القمع وغيره، وذلك في حال جماعة ما قد شاركت هي في ارتكاب الجرائم، وهنا يلاحظ مطالبتها بالنسيان، والنسيان في هذه الحالة يكون مفيداً لهذه الجماعة؛ لأنه سيسمح لهم بتكرار الجريمة؛ لهذا يدعون لنسيانها على رأي (آدم جونز) مؤلف كتاب (الإبادة الجماعية مقدمة شاملة – غير مترجم للعربية -).
دُرست الإبادة الجماعية للإيزيدية من مجالات معرفية مختلفة: قانونية، واجتماعية، وانثروبولوجية، وأدبية،…الخ، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، إنّ تلك المجالات درست ما جرى على المرأة الايزيدية والأطفال الإيزيديين والمجتمع الإيزيدي بشكل عام، إلا أنّ موقف المرأة ودورها في التوثيق لم يُدرس، ولاسيما أن النساء الإيزيديات قد وثقن وبشجاعة ما جرى عليهن كوسيلة من أنواع المقاومة؛ لأن عدم توثيقها يعني الاستسلام لمرتكبي الجريمة.
ولا يعني أنَّ الرجال لم يكن لهم دور في عملية التوثيق، فهنالك ايزيديون من الناجين قدموا شهاداتهم عما جرى، لكنها وقفت عند توثيق الهجوم والنجاة والمقاومة، وأزمة النزوح القسري والقتل، أما النساء فقد وثقن الإبادة بتفاصيلها وبجرائمها كافة؛ لأنهن عانين منها وشاهدنها بتفاصيلها، وكان توثيقهن مصدراً رئيساً في كشف الجريمة وإدانة مرتكبيها.
بيّنت المرأة قدرتها على توثيق الجرائم التي ارتكبت بحقهن بشكل حي ودقيق، ولم تقف عند حدود السرد، بل أن بعض الناجيات الإيزيديات شاركن في مؤتمرات الإبادة الجماعية لمطالبة المجتمع الدولي للنهوض بمسؤولياته الإنسانية تجاه الجرائم التي ارتكبت ضد الإيزيدية، كذلك استعانت المرأة الإيزيدية بوسائل مختلفة، منها: الفن والمسرح والتلفزيون، وشاركن في أفلام وثائقية، ونقلت قضيتهن إلى العالم عبر وسائل إعلام عالمية، وهنا وصلت عملية التوثيق إلى مرحلة أكثر انتشاراً.
ولعل أبرز أنموذج على ذلك قصة (نادية مراد) كواحدة من آلاف الضحايا الايزيديات، بدءاً من مشاهدتها أمها وأخوتها وهم يساقون إلى حتفهم، مرورا بمتاجرة الإرهابيين بها، وتناقلها من شخص إلى آخر، وتكرر اغتصابها وتعذيبها، في محنة تعرضت لها المرأة الإيزيدية والتركمانية الشيعية – النساء المسكوت عما ارتكبه الإرهابيون بحقهن، وجرى على بعضهن ما جرى على النساء الإيزيديات-، لقد وثقت رواية (الفتاة الأخيرة) لنادية مراد صوت اللواتي اخترن مقاومة المجرمين بعدم التزامهن الصمت، وذلك بتأييد من مجتمعاتهن لدفعهن للتوثيق والمطالبة بتحقيق العدالة.
لقد وثقت نادية مراد ما جرى في قرية كوجو – لأن الإبادة الجماعية حدثت في قرى متعددة- بدءاً من تفاصيل حياة القرية، وسكانها قبل تعرضها للإبادة، الحياة البسيطة التي تعتمد على ضروريات الحياة الهانئة بمعيشتها المستمتعة بجمال الطبيعة، وفي الوقت نفسه تصف بدايات التحول في صراع الهويات المحيط بهم من القومي إلى الديني، الذين نالهم منه كتحديد لانتمائهم سواء على المستوى القومي على وفق سياسة التعريب التي قادها نظام البعث في سبعينيات القرن العشرين أم على المستوى الديني، وذلك مروراً بما جرى مع بدايات الاستهداف بعد 2003م وصولاً إلى أحداث 2014م، مع حالات السرقة والخطف وطلب الفدية وذلك في بداية الأمر قبل حدوث المجازر وكل الجرائم التي ارتكبت بحقهم.
لم توثق نادية مراد الجرائم التي ارتكبت بحق اتباع جماعتها فقط، إنما وثقت السياق الذي أنتج تلك الجرائم وعلاقتهم مع محيطهم الكوردي والعربي، وثقت هجوم الدواعش على قريتها وفقدها لذويها، والخطف والسبي والتعذيب النفسي والجسدي ومحاولة الفتيات للانتحار كشكل من أشكال المقاومة للإرهاب، ووثقت محاولة التصدي لفكرة الانتحار عبر التضامن بين الفتيات من أجل التخطيط للهرب، ووثقت سوق النخاسة الذي أقامه الإرهابيون.
لم يخلُ توثيق نادية من تحليل – على الرغم من أنها حينما اختطافها كانت طالبة – وقدمت وصفاً لتخطيط داعش للهجوم على الايزيديين في دلالة على أنه مخطط له من أشهر سبقت، ولم يكن سلوكاً ارتجاليا، عبر مناقشة السبي على وفق الفقه الذي ينتمون إليه، وذلك في مجلتهم (دابق) كوسيلة لجذب المزيد من الإرهابيين، وكأنهم كانوا متهيّئين لهذه اللحظة، كذلك في فهمها للاغتصاب كشكل من أشكال أسلحة الحرب على مر التاريخ.
وهي لم توثق الإبادة الجنسية (الاغتصاب الإبادي) وما تعرضن له فقط، إنما وثقت كل شيء من مقتل أخوتها واختفاء أمها، وكيف كان يعمل الإرهابيون على غسل أدمغة الصبية من الايزيدية وتحويلهم إلى أدوات بيد داعش، ولم توثق نادية مراد ما جرى لها نتيجة جرائم تنظيم داعش فقط، إنما وثقت عملية هروبها والموقف الشجاع لعائلة ناصر، العائلة الموصلية التي ساعدتها على الهرب من داعش، وما جرى لها في رحلة الهرب، وما تعرضت له. لم توثق ما جرى عليهن من الرجال الدواعش، إنما ما فعلته النسوة الدواعش أيضاً، سواء في دورهن الإرهابي وقد انتمين إليه بأعداد كبيرة، أم في موقف الفرجة مما تعرضن له الفتيات الإيزيديات على الرغم من أن بعضهن قد تغير موقفهن لاحقا وساعدن الفتيات، مع تأكيد القول إن غالبية نساء داعش عُرفن بأنهن أكثر وحشية من الدواعش أنفسهم.
ومن رواية نادية وقصص الإيزيديات الأُخريات يتصوّر القارئ أنه يقرأ قصة مسيرة إعدام أرواحهن بعد أن سُلب منهن كل ما يرتبط بجسدهن.
وفي سياق الأدب النسوي والمقصود به هنا الأدب الذي كتبته المرأة، وكان له دور في عملية التوثيق، وهذا ما نقرأه في رواية (وشم الطائر) لدنيا ميخائيل التي صاغت أحداثها بحبكة وهي تأتي ضمن سياق نال الاهتمام الأدبي مؤخراً عبر خطاب المذابح، إذ بينت مؤلفة الرواية أنه ليس من قبيل المصادفة توافق الرواية مع واقع معيش، بطريقة اعتمدت وصف الجرائم التي ارتكبها الإرهابيون بحق الايزيديات. ويُذكر أن خطاب المذابح قد نال اهتمام النقاد العرب في الآونة الأخيرة، وصدر في سنة 2023م عدد خاص من مجلة خطابات بعنوان خطاب المذابح وهو خطاب يختص بأحداث القتل الجماعي للبشر التي ترتكبها دول وأنظمة وجماعات بهدف تحقيق أغراض سياسية أو اقتصادية أو دينية.
إن الإبادة الجماعية التي تعرض لها الايزيديون في 2014م تختلف عن الإبادات السابقة؛ لأن الأخيرة قد وثقت بشكل تفصيلي، وهذا يرجع إلى تطور التقنيات الحديثة ووسائل الإعلام ودورها، فضلاً عن تطور جمع وتدوين أدلة الجرائم التي ارتكبت من جهة، ومن جهة أخرى حرص المجتمع الايزيدي على توثيقها. وعلى الرغم من أنّ الإبادة الجماعية جرت على جميع أفراد الجماعة من رجال ونساء وأطفال، إلا أن أكثر المتضررين ومن وقع عليهم الضرر الأكبر هم النساء سواء على مستوى الأذى الجسدي أم النفسي، إذ شهدن كل أنواع الأذى على أنفسهن أو ما شاهدنه من جرائم ضد عوائلهن، ولم تقف عند لحظتها، إنما لها آثار مستقبلية من الصعب التغلب عليها. ومن خلال فهم الإبادات الجماعية للإيزيدية وتوثيق الناجيات؛ يتبين أن المجرمين لم يبيدوا ويقتلوا أفراد الجماعة فحسب، إنما أبادوا حياة الناجين؛ فمن الصعوبة عليهم نسيان ما جرى. وفي السياق نفسه، من الضروري أيضاً العمل على توثيق رواية الناجيات التركمانيات الشيعة، والوقوف عند أسباب عدم توثيقهن لما جرى.