banarlogo

زيارة السجين (المواجهة) في سجون البعث صور من انتهاك حقوق الإنسان

د. رائد عبيس

عضو المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف

 

دأب حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق على اتباع أساليب إجرامية في ممارسة سلوكه الوظيفي، في إدارة الدولة ومؤسساتها، واتباع أخلاقيات اتسمت بالغلظة والشدة والعنف، كان المعيار الأول فيها هو سيادة نهجه السياسي والحزبي في إدارة حياة المجتمع. ومحاولة إرغام العامة على اتباع هذه السياسة ومطاوعتهم للحزب في فعل ما يريده.

برزت هذه الأخلاقيات السلوكية السيئة في عموم المؤسسات الحكومية، وفي جميع التشكيلات الحزبية والأمنية، سواء من قبل رجال الشرطة، أو من قبل عضو فرقة حزبية، أو عضو جهاز مخابرات، أو جهاز الأمن، أو أي تشكيل عسكري أو أمني آخر.

كان أشد هذه السلوكيات الأخلاقية سوءا، وقسوة، وأجراماً، هي في المؤسسات السجنية، سواء التابعة بعضها لوزارة العدل، أو وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، أو سجون وزارة الداخلية، أو حتى الفرق الحزبية التي يتم فيها الاعتقال والحجز، أو مراكز الاحتجاز الأخرى.

لم يختلف الأمر كثيرا في اتباع هذا النهج من السلوك الأخلاقي المنحرف في التعامل مع مواعيد المواجهة مع السجين أو النزيل، وبين أقاربه أو أسرته، أو حتى المحامي الموكل عنه – إن كان هذا ممكناً في سياسة حزب البعث لضمان حق التوكل للسجناء والموقوفين، ولا سيما في حالات سجناء المعارضة السياسية وسجناء الرأي، والنشاط الديني – ففي الغالب هذا الحق مستحيل!

فالمواجهة لم تكن حالة طبيعية، ومنتظمة، ومريحة، بين السجين وبين من يواجهه، بل هي حق منتهك تماماً، وأصبحت مع هذه السلوكيات البعثية، موعداً يحمل معه آلاماً خاصة، ومواقف نفسية شديدة، واعتداءات متكررة، وإساءة تطال الطرفين، سواء على المستوى النفسي أو على المستوى البدني.

فنتيجة هذه السمعة السيئة لمواعيد المواجهة بين السجين وبين أهله وأقاربه، امتنع كثير من ذوي السجناء عن زيارة أبنائهم وأهاليهم. وامتنع كثير من السجناء من مواجهة أهاليهم الذي يتحملون مخاطر وأذية هذه المواجهة ويأتون إلى السجون لكي يواجهوهم، إلا أنهم مع علمهم بذلك يمتنعون عن المواجهة خشية أن يلحقهم مزيد من المخاطر جراءها، أو تنالهم تلك المخاطر كذلك.

نذكر نماذج من هذه السلوكيات المشحونة بالحقد البعثي على السجين وأهله، والخرق الواضح لكل قواعد مصالح السجون ومراعاة حقوق الإنسان فيها:

  • استقبال أهالي السجناء الذين يطلبون المواجهة بالسب والشتم والإهانة.
  • تعريضهم لنوع من التفتيش المهين والقاسي ولا سيما على النساء اللواتي تُنتهك بذلك كرامتهنّ وعفّتهنّ.
  • لا يخلو الأمر من مخاوف الاعتقال والسجن وألحاقهم بأبنائهم السجناء من دون أي سند قانوني في ذلك، وقد حدث ذلك بالفعل لكثير من العوائل.
  • تغيير مواعيد المواجهة بشكل مفاجئ؛ مما يعرضهم لضغط نفسي كبير، فبعضهم يتجشم عناء السفر من محافظات بعيدة، مثل البصرة أو من شمال العراق.
  • إطالة ساعات الانتظار؛ مما يسبب أضراراً نفسية ومادية كبيرة على العوائل التي تأتي لمواجهة أبنائها، مثل: فقدان الصبر على ذلك، وتلف الطعام الذي يأتون به.
  • تقليل أوقات المواجهة إلى حد دقيقتين فقط أو خمس دقائق فقط.
  • منع المواجهة بشكل مفاجئ، بين السجين وأهله، مما يتسببون بأذى نفسي كبير على الطرفين.
  • ترك أهالي السجناء في ساحات مكشوفة، حيث يتعرضون لأشعة الشمس في الصيف أو البرد في الشتاء.

هذا من جهة الأهالي، أما من جهة السجناء، فالأمر لم يكن تلقائيا أبداً، فهم يتعرضون إلى أبشع أنواع التنكيل حين يقترب موعد (المواجهة) فهم يتعرضون مثلا إلى:

  • السب والشتم والغلط والتحرش في كل عملية استدعاء للمواجهة.
  • يكون موعد المواجهة عرضة لمزاج الحارس السجني تجاه السجين، فكثيرا ما يمنعهم من ذلك لا لشي إلا أن مزاجه متعكر.
  • تعرض كثير من السجناء للتعذيب البدني أمام ذويهم حين المواجهة.
  • المنع المفاجئ للمواجهة لحسابات أمنية يقيمها السجان، من دون مراعاة الحق في ذلك.
  • الحرمان من المواجهة لمدد طويلة مخالفين بها ضوابط المصلحة السجنية.
  • منعهم من تلقي أي شي من أهاليهم أو أقاربهم من طعام وغيره أو استلامه من قبل إدارة السجن ومنعه عنهم.
  • تقليل أوقات المواجهة إلى حد تكون غير مقبولة وغير مستساغة للطرفين.

شهادات عن انتهاك حق المواجهة:

 

يروي السيد حسن شبر، وهو معتقل سابق ونزيل سجون عديدة، مثل: قصر النهاية، سجن (أبو غريب)، الأمن العامة، وغيرها من السجون:

(عندما دخلت قصر النهاية علمت أن بعض المعتقلين تصلهم بعض الهدايا من أهلهم، غذاء وملابس وغطاء وما إلى ذلك. فكنت أتمنى كثيرا أن لو يعلم أهلي بوجودي؛ ليرتاحوا أولاً وليرسلوا لي الملابس والغذاء… وبعد مرور ثلاثة وثلاثين يوماً على اعتقالي، ورد على قصر النهاية معتقلون جدد، وكانوا بحيث لا يتوفر لهم غطاء فجاءنا المسؤولون، وصاحوا – من يريد أن يتكلم مع أهله بالتلفون ليرسلوا له الغطاء؟ من أراد ذلك فليخرج يده من الثقب. فأخرجت يدي مسرعاً، وفتحوا لنا الأبواب وقفنا صفا طويلاً ننتظر دورنا للمخابرة. ولم يسمحوا لنا أن ندير قرص التلفون أكثر من مرة واحدة، فإذا طلب أحدنا رقما وكان مشغولا، فإن حقه يسقط ولا يجوز له أن يعيد الطلب أو يطلب رقما غيره. أما الذين أرادوا أن يتصلوا بدوائرهم فقد منعوهم لأنهم اشترطوا أن لا يكون التلفون المطلوب (بدالة تلفون)؛ لأنه يتنافى مع السرية أولا؛ ولأنه يؤخر المكالمة نوعا ما. وأفهمونا أن المكالمة لا يجب أن تتجاوز الدقيقة الواحدة، وأن نخبر أهلينا بأن يرسلوا لنا الملابس والأغطية والغذاء مرتين في كل أسبوع، يرسلون ذلك إلى وزارة الدفاع ثم يصل إلينا بعد كتابة الاسم عليه).

وذكر بأن (مع اعتزازي بالأكل كنت أتمنى أن لا يبعثوه [كان يقصد أهله]). ويذكر أيضا (كانوا يضربوننا عندما نتسلم المواجهة، فكانوا قبل أن نتسلم (المواجهة) يضربوننا ضربا شديداً بأية آلة كانت معهم بأخمص المسدس أو الرشاشة أو السوط. وفي إحدى المرات لم يكن معهم شيء فضربوني بالكرسي على رأسي فكنت أتحرج كثيراً من استلام هذه (المواجهة) ، وقلت للضابط  في الزنزانة، إنني اليوم لو جاءوني فسوف لا أخرج. قال لا … إن عقابك سوف يزداد). (شبر، حسن، صفحات سوداء من بعث العراق، ص 100).

وتذكر باسمة السعدي، وهي معتقلة سياسية في سجن الرشاد، جزء من هذه الشهادات، مثل: حرمان الأمهات من لقاء أبنائهن، وأمهاتهن، أو تهديدهن بالقتل، من قبل ذويهن في حالة لقائهن؛ لأن سجنهن يعد عاراً يلاحق ذويهن، وما يتعرضن له داخل هذه السجون. فضلاً عن التفتيش المهين للنساء اللواتي يأتين لمواجهة بناتهن ، وأخواتهن، وأمهاتهن، ومنعهن من إدخال الطعام أو الحاجيات النسائية الأخرى. (السعدي، باسمة، مذكراتي من سجن الرشاد،2024، ص103).

الطبيعة القانونية لانتهاك الحق في المواجهة:
  • يعد هذا الانتهاك مخالفة صريحة لقانون مصلحة السجون المشرع بالرقم (151) لسنة 1969 في 27/9/1969 والهدف منه على وفق مادته الثانية التي تهدف إلى تأهيل السجناء سلوكيا وثقافيا ومهنياً، وتغليب الإدارة السياسية والحزبية البعثية للسجون على الإدارة التي يفترض أنها مستقلة، كما جاءت به المادة الرابعة منه، وانتهاك الصلاحيات الممنوحة في المادة (52) فقرة الرابعة في فرض العقوبات التأديبية، وحق المواجهة مع أهلهم وأقاربهم بشكل جزافي وارتجالي. بعيداً عن قرارات الإدارة، مستندين بذلك على مواقف سياسية تجاه السجناء. وكذلك مخالفة لما ورد في قانون مؤسسة الإصلاح الاجتماعي المرقم (104) لسنة 1981، كما جاء في مواده المرقمة 28-29-30-31.
  • يعد هذا الانتهاك مخالفة صريحة لقواعد إدارة السلوك في المؤسسات السجنية التي كتبت على وفق بروتكولات ومعاهدات مناهضة التعذيب وغيرها، مثل: بروتوكول إسطنبول، الذي أشار في الفقرة (10 – و)، إلى حق وصول الأطباء والمحامين وأفراد الأسرة إلى المحتجزين، على وفق ما نصت عليه المادة (11) من قانون مناهضة التعذيب، والمادة (11- 13 و 15-19 و 23) من مجموعة مبادئ الاحتجاز، والفقرة (7 و22 و37) من القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء.

فالمواجهة في سلوك حزب البعث الإجرامي هي مناسبة لتفريغ الحقد، وممارسة سلوكيات مشينة تجاه الأهالي وذويهم من السجناء، والتنكيل السياسي بهم، وابتزازهم واستغلالهم، وجعل منها فرصة لإلحاق الأذى والتعذيب والنيل منهم.