أ.د. حسين الزيادي
الحرب التي دارت بين العراق وإيران لم تكن مجرد صراع عابر، بل كانت تجربة مريرة تركت آثارًا عميقة، وندوباً غائرة في البنية الاجتماعية للمجتمع العراقي، وشريحة الأسرى العراقيين من الشرائح الاجتماعية التي عانت من ظلم النظام وهمجيته الصارخة، ولم تنته تلك المعاناة برجوعهم إلى أرض الوطن؛ فقد عادوا من الأسر ليقعوا في أسر من نوع آخر، إنه أسر الفقد، والضياع، والحرمان، وعدم الانصاف، وكان النظام ينظر إلى هذه الشريحة بمنظار الشك؛ والريبة لذلك بقي هؤلاء تحت مراقبة الأجهزة القمعية للنظام.
يتضح من خلال الكتاب والإجابة المرفقة مقدار المأساة التي عاشها الأسير عاصي مصطفى الذي خرج من قيود الأسر ليصبح أسيراً أبدياً في موطنه، حاملاً في عينيه خرائطَ شوق كبيرة، لكن لحظة اللقاء لم تكتمل، فوجد نفسه فجأة على شاطئ الفقدان، ليتكشف متأخراً أن الوطن الذي ضحى من أجله، كان مجرد كذبة كبيرة، وأن السنوات الثماني التي دفعها من عمره كانت ضريبة بلا معنى، لم تعد هناك زوجةٌ ولا أولاد، عاد ليجد البيتَ أطلال مهدمة، وذاكرة بلا شواهد، وهكذا أصبح عاصي شاهداً على أقسى حقبة تاريخية مر بها أبناء العراق، فلم يعد أسير جدران خارجية فحسب، بل صار أسير سجن الذكريات، وشاهداً حياً على قسوة نظام البعث ووحشيَّته؛ الذي ارتكز على تأليه القائد وعبادة البطل والفرد الواحد.
تقديم الطلب
المرفق ربطاً عبارة عن طلب من أحد المواطنين موجه مباشرة إلى هرم السلطة في نظام البعث، يسأل عن مصير عائلته بعد مقدمة تزلفية – استعطافية، أراد بها استرحام النظام واستجداء شفقته، ويبدو أن صاحب الطلب قد لجأ إلى هذا الالتماس بعد جهود كبيرة حاول من خلالها معرفة مصير عائلته، إلا أنه لم يفلح في معرفة مصيرهم، وعلى الرغم من خطورة توجيه هذا الطلب ألا أن المواطن على ما يبدو لم يعد يمتلك ما يخاف عليه.
المواطن عاصي مصطفى أحمد من مواليد 1955م، عائد من الأسر بتاريخ 24-8-1990م بصفته جندياً احتياطاً، أسر في قاطع الشوش خلال الحرب العراقية – الإيرانية بتاريخ 27-3-1982م، بمعنى آخر أن هذا المواطن أمضى في الأسر ما يقارب الثماني سنوات وخمسة أشهر، وبعد أن عاد إلى أرض الوطن، اتجه إلى داره ليجدها خاوية على عروشها بحسب تعبيره، إذ لم يجد لا زوجة ولا أولاد، وقد أُخبر من قبل أهل المنطقة والجيران بأن عائلته وقعت أسيرة في يد قوات الأنفال في عملية الأنفال التي جرت في المنطقة الشمالية بقيادة علي حسن المجيد، وأنهم لا يعلمون عنهم شيئاً، وقد أدرج الأسير العائد طلبه الخطي مقروناً بذكر أفراد عائلته التي لم يهتد إلى مصيرها، وهم كل من: زوجته السيدة عزيمة علي أحمد تولد 1955م، وابتنه جرو عاصي أحمد تولد 1979م، بمعنى أنها كانت بعمر 9 سنوات حين اختفائها، وأولاده كل من فريدون تولد 1981م، أي أنه اختفى بعمر 7 سنوات، وولده الآخر روخوش تولد 1982م، بمعنى أنه اختفى بعمر ست سنوات فقط.
الرد والاعتراف الرسمي
في 29-10-1990م جاء الرد مقتضباً من قبل ديوان الرئاسة بكتابهم ذي العدد /ش. ع/ب/4/16565 في 10/ ربيع الثاني /1411 هـ، والمعنون إلى السيد عاصي مصطفى أحمد الذي يقطن محافظة السليمانية/ قضاء جمجال محلة بيكس، مسجد حجي إبراهيم، ويبدو أن الأسير العائد ما عاد له مأوى ومقر سوى هذا الجامع بعد أن فقد مسكنه وعائلته، جاء الرد بكل برود وبساطة، الرد كان إجرامي أكثر من العملية الإجرامية نفسها، ومضمون الإجابة التي خلت من أي مقدمات توضح: أنه بناءً على طلبك المقدم بتاريخ 04/10/1990م أن زوجتك وأولادك فقدوا أثناء عمليات الأنفال التي جرت في المنطقة الشمالية عام 1988م، والكتاب موقع من قبل رئيس ديوان الرئاسة سعدون علوان مصلح.
وهذا الرد وقصة الأسير تكشف بوضوح أن هناك اعترافاً رسمياً من قبل السلطة عن جريمة ارتكبت بعنوان جريمة الأنفال، التي تعد من أبشع أنواع الجرائم التي اقترفت ضد المدنيين الأبرياء، وتعدّ من أخطر صفحات القتل الجماعي الحكومي في تاريخ الحكم البعثي في العراق
التكييف القانوني للجريمة
توصف الجريمة بحسب التكييف القانوني لها على أنها جريمة تغييب قسري، وعلى وفق النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد فــي 17 تمـوز 1998م الذي حــدد الجرائم ضـد الإنسانية، فجريمة التغييب القسري ترقى إلى أن تعد جريمة ضد الإنسانية متى ما ارتكبت في إطار هجوم ممنهج واسع النطاق ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، كما نص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية العليا الذي دخل حيز التنفيذ عام 2002م والاتفاقية الدولية لحماية الأفراد من الاخفاء القسري التي اعتمدت من الجمعية العامة في عام 2006م على أن الاختفاء القسري يُعد جريمة ضد الإنسانية في حالة ارتكابه في ضمن هجوم واسع النطاق أو ممنهج على مجموعة من السكان المدنيين، ولأسر الضحايا المطالبة بالتعويض، ومعرفة مصير أقاربهم ممن نالتهم الجريمة.
اختفاء قسري
تعد حالات الاختفاء القسري سياسة ممنهجة وأسلوباً استراتيجياً متبعاً من قبل نظام البعث منذ عام 1968م إلى عام 2003م، إذ تشير تقديرات لجنة الأمم المتحدة المعنية إلى أن ما يصل إلى 290,000 شخص قد غُيبوا قسراً في العراق، بما في ذلك حوالي 100,000 كردي كجزء من حملة الإبادة الجماعية التي شنها نظام صدام في كردستان العراق، وتعد مجزرة الأنفال التي ارتكبتها الدكتاتورية بحق المدنيين العزل من أبرز الأمثلة على حالات الاختفاء القسري، إذ هُجّر الآلاف، وأُخفيت جثامين الضحايا في مقابر جماعية، وشملت حملات الأنفال ثماني عمليات كبرى استمرت كل منها أسبوعين، وبدأ التخطيط لها عام 1987م بعد أسبوعين من تعيين صدام حسين ابن عمه علي حسن المجيد رئيسا لمكتب شؤون الشمال بمجلس قيادة الثورة.
المحكمة الجنائية العراقية
أُنشئت المحكمة الجنائية العراقية العليا بأمر من سلطة التحالف المؤقتة عام 2003م، وأدرجت في صلب القانون العراقي في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2005م، وللمحكمة ولاية على العراقيين والمقيمين بالعراق ممن ارتكبوا جرائم الإبادة الجماعية، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم حرب خلال المدة من 17 يوليو/تموز 1968م إلى 1 مايو/أيار 2003م؛ وقد تولت محكمة الجنايات الثانية النظر في قضية الأنفال، وتألفت هيئتها القضائية من خمسة قضاة؛ ووجهت تهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب، وجرائم الإبادة الجماعية إلى سبعة متهمين، وقد ركزت على سلسلة من الهجمات المنسقة التي شنتها القوات العراقية على السكان الأكراد في شمال العراق خلال عامي 1988 و1989، التي راح ضحيتها ما يقدر بنحو 180 ألف كردي تعرضوا للتشريد أو السجن أو القتل، وقد بدأت إجراءات القضية في 21 أغسطس/آب 2006م، وأدلى شهود الإثبات بشهادات مروعة عن آثار حملة الأنفال على الأكراد، واستندت المحاكمة إلى كم غزير من الوثائق الصادرة عن النظام البعثي، وبالأخص أدلة الطب الشرعي، والادعاءات المتعلقة باستخدام الأسلحة الكيميائية، واستمعت المحكمة إلى شهادات أقل من 10 من شهود النفي، وأسقطت التهم الموجهة إلى (طاهر توفيق)؛ لعدم كفاية الأدلة؛ بناء على طلب سابق من الادعاء، وحُكم على فرحان مطلق الجبوري بالسجن المؤبد بتهمة الإبادة الجماعية، وبالسجن المؤبد، والسجن عشر سنوات بتهمة القتل العمد والترحيل أو الإبعاد القسري باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، وفُرضت على صابر الدوري ثلاث عقوبات بالسجن المؤبد بتهمة الإبادة الجماعية والقتل العمد، باعتبارهما من الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وإصدار الأوامر بشن الهجمات على السكان المدنيين باعتبارها جريمة حرب، أما سلطان هاشم فقد فرضت عليه أربع عقوبات بالإعدام شنقاً بتهمة الإبادة الجماعية، والقتل العمد، والإبادة باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، وإصدار الأوامر عمداً بشن هجمات على المدنيين باعتبار ذلك جريمة حرب، وفرضت على هاشم عقوبتان بالسجن المؤبد بتهمة الإخفاء القسري وغيرها من الأفعال غير الإنسانية باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، وحكمت المحكمة على حسين رشيد بالإعدام شنقاً بتهمة الإبادة الجماعية، والقتل العمد باعتباره جريمة ضد الإنسانية، وشن هجمات متعمدة على السكان المدنيين باعتبارها جريمة حرب، أما علي حسن المجيد فقد صدرت بحقه خمسة أحكام بالإعدام شنقاً بتهمة الإبادة الجماعية والقتل العمد والإخفاء القسري والإبادة، باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، وشن هجمات متعمدة على السكان المدنيين، باعتبار ذلك جريمة حرب. وفرضت عليه عقوبات عدة بالسجن تتراوح مددها بين سبع سنوات والسجن المؤبد؛ لارتكاب أفعال أخرى غير إنسانية تعد جريمة ضد الإنسانية، وجرائم أخرى.