أ.د. حسين الزيادي
على الرغم من أن تغيير التسميات كان موجوداً في العهد العارفي والقاسمي، إلا أن نظام البعث كان مهووساً ومتحمساً لتغيير الأسماء واستحداث الألقاب خلال مدة حكمه 1968-2003 ، في محاولة منه لهندسة الذاكرة الجماعية، وتطهير الثقافة المجتمعية، وأخذت عملية تغيير المسميات الجغرافية والتاريخية والمؤسسية تشكل ظاهرة منهجية بارزة في عهد حزب البعث، تجاوزت مجرد التحديث الإداري لتصبح أداة مركزية لإعادة صياغة الهوية العراقية على وفق أهداف النظام الحاكم، وهيكلة رمزية للسلطة، وتوظيف الفضاء الجغرافي لمصلحة نظام البعث، ولم تكن أسماء الشوارع والمحافظات والمستشفيات والجامعات والجسور والطرق مجرد دلائل مكانية، بل تحولت إلى ساحات حرب رمزية تستهدف ضرب الذاكرة الجماعية، وخلق تاريخ جديد يهدف إلى طمس الذاكرة، وتخليد رموز البعث من خلال التلاعب بالمكان، وخلق صراع فكري ورمزي، واجتثاث الماضي، ومحو أي هوية سابقة، أي استهداف الإرث السابق بكل مسمياته وأنواعه، وتشير التقديرات إلى تغيير واستحداث عشرات الآلاف من الأسماء خلال هذه الحقبة، بدءاً من أصغر شارع فرعي أو حي سكني إلى أكبر محافظة، حتى أن أحياء تحمل مسميات: البعث، والقادسية، وصدام، والعروبة، و 7 نيسان، والميلاد، والقائد، وغيرها كثير أصبحت تتواجد في جميع مدن العراق، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد شمل الأمر تغيير في أسماء المعالم، والبنى التحتية والخدمية، كالمدارس والجسور والجامعات والمؤسسات الصحية والأنهار والسدود والجوامع والطرق والمجمعات السكنية، وكان ذلك جزءاً لا يتجزأ من مشروع السلطة الشمولي الرامي إلى السيطرة على العقل والذاكرة والهوية، ومحاولة لمحو تاريخ المنطقة، وزرع تاريخ مزيف يخدم أهداف الحزب وغاياته.
قام نظام البعث بتغيير أسماء بعض المحافظات بسياق بعثي، ورؤية عنصرية كتحويل محافظة الناصرية إلى محافظة ذي قار عام (1969)، تيمناً بمعركة ذي قار قبل الإسلام، ومحاولة ربط البعث بحكاية النصر العربي، وتحولت محافظة الديوانية إلى محافظة القادسية (1976)، مستلهماً اسم معركة القادسية ليوظفه في خطابه القومي والعدائي، ومحافظة السماوة إلى المثنى في محاولة ربط القيادة الإسلامية بالقيادة البعثية، ومحافظة كركوك إلى محافظة التأميم في محاولة لربط الإنجازات بالمكان، وشمل التغيير استبدال الأسماء الكردية والتركمانية في القرى والمواقع الجغرافية بأسماء عربية أو قومية، كجزء من سياسة التعريب القسرية.
لم تكن هذه التغييرات عفوية أو جمالية أو دلالية، بل كانت عملية مقصودة تخفي وراءها أهدافاً عميقة ومدروسة ترتبط بزرع الولاء القسري، وخلق بيئة بصرية وشعور لا إرادي بالانتماء، فالسيطرة على التسميات هي سيطرة على تصور الناس للعالم الخارجي المحيط بهم، فالشاب الذي يدرس في جامعة صدام، ويعمل في دائرة صدام، ويمر يومياً عبر ساحة صدام، ويراجع مستشفى صدام، ينشأ في بيئة بصرية ولفظية وتخيلية تشكل وعيه اللاشعوري ليربط الوطن كله بشخصية واحدة هي رمز السلطة وهرمها.
وتأسيساً على ما تقدم يمكن القول إن نظام البعث يهدف من خلال إعادة تسمية الأماكن والمعالم إلى تحقيق أهداف عدة تتمثل بالآتي:
- تخليد النظام وتمجيد هرم السلطة، خاصة بعد صعود صدام وعزل البكر، إذ تحولت سياسة التسمية إلى حملة ممنهجة لتقديس الشخصية الحاكمة، ويتضح ذلك من خلال إضافة كلمة (صدامية) التي ارتبطت بمناطق وأحياء عدة في العراق كالقرنة والبصرة والكرخ، وصدامية الثرثار، وصدامية المطلاع إبان الغزو الصدامي للكويت وغيرها كثير، ولم تسلم المستشفيات من تغيير التسمية؛ فسميت بمستشفى صدام في جميع المحافظات، وشهدت المدارس تغييراً جذرياً في أسمائها لتكون مدرسة صدام الابتدائية أو ثانوية صدام للبنين، حتى الشوارع الرئيسة، والساحات الكبرى في بغداد والمحافظات شملتها التسمية، وللجوامع حظها أيضاً، فجامع النداء أطلقت عليه التسمية لما قال صدام غداة غزو الكويت: (ها قد لبينا نداء إخوتنا في الكويت) في مسرحية هزيلة لم تنطوِ على أحد، وجامع أم المعارك الذي اكتمل في عام 2001 بحي العدل، وجامع صدام الكبير في الجانب الأيسر لنهر دجلة في الموصل، والذي كان يسمى بجامع الموصل الكبير، وهناك العديد من الجوامع في كل محافظات العراق تم تغيير تسميتها بحسب فلسفة البعث وأهدافه، أو تم إنشاؤها لتحمل الاسم نفسه.
- فرض السردية البعثية: ربط الحاضر والمستقبل بالبعث فقط، وإيهام المواطن بأن كل ما هو قائم يعد إنجازاً لحكومة البعث مرتبط بشخصية القائد الأوحد، وأنه المالك الحقيقي لها، ولم يقتصر التلاعب على التسمية، بل شمل الفضاء الجغرافي للمكان، فبعض المجمعات السكنية على سبيل المثال، ومنها مجمع صدامية الثرثار السكني أنشأ على شكل، أو نمط يظهر من الجو اسم (صدام حسين)، وإمعاناً في تقديس الذات أمر الأخير بكتابة اسمه على الطوب الجديد المستخدم في أعمال البناء والترميم كما هو الحال بالنسبة لمدينة بابل الأثرية.
- طمس الهويات الفرعية: أي إضعاف الانتماءات الدينية أو الأثنية، ولاسيما المسميات الكردية والشيعية خاصة، عبر تجريد الأماكن من أسمائها التاريخية المرتبطة بها ومدلولاتها الشعبية، واستبدالها بأسماء قومية، أو ألقاب مرتبطة بالنظام، وكانت هناك أسماء يحظر تداولها، وإطلاقها على أي حي، أو منطقة، أو معلم خدمي، أو مجتمعي، ولاسيما تلك التي ترتبط بالموروث الشعبي لبعض الجماعات، أو الأسماء الدينية المقدسة لدى بعض الطوائف.
- ترسيخ الولاء للنظام وإشاعة الرعب والخوف، ومن ذلك على سبيل المثال تغيير اسم قضاء الدجيل إلى قضاء الفارس، بعد مجزرة كبيرة ارتكبها نظام البعث بحق أبناء القضاء، وفي ذلك رسالة ترهيب واضحة تشير إلى أن النظام حاضر في كل تفاصيل الحياة، وقادر على محو الهوية والتاريخ، كما أنهى اسم البلدة.
- التلاعب بالتاريخ من خلال استخدام أسماء معارك تاريخية كذي قار والقادسية والمثنى في محاولة لسرقة المجد التاريخي، وربط البعث وحروبه العبثية بتلك المعارك وجعلها امتداداً طبيعياً للمعارك العربية قبل الإسلام وبعده، وادعاء أنه الوريث الشرعي الوحيد لتراث الأمة العربية، وحامي العرين ومحقق الانتصارات.
والجدير ذكره أنه كان محظوراً على المواطن إطلاق التسمية القديمة على المكان أو المعلم، وإذا حدث ذلك فإنه يتعرض للمساءلة والاعتقال، وعلى سبيل المثال فإن كثيراً من المواطنين اعتُقِلوا؛ لأنهم أطلقوا تسمية (الثورة) على المدينة التي أصبحت تُعرف رسمياً باسم مدينة صدام إبان حكم البعث.