banarlogo

جذور التطرف من معركة الطف إلى ارهاب داعش

د. حسين الزيادي

 

 

غالباً ما يعيد الفكر المتطرف تسويق نفسه بنفسه، ويُجدد جرائمه بصيغ جديدة واقنعة مختلفة؛ مختفياً وراء مظاهر وشعارات مستحدثة، لكنه يبقى محتفظاً بجوهره وبالمضامين التي تشرّب بها، ويستعمل التسويغات نفسها من خلال الادعاء بالشرعية المطلقة (الأمويون سابقا والتنظيمات المتطرفة اليوم)، وعندما نقرأ أحداث معركة الطف، ونقارنها بأفعال التنظيمات المتطرفة، داعش والقاعدة وغيرها، نكتشف أن آليات التطرف لم تتغير، والفرق الوحيد هو اختلاف الأسماء والأدوات المستعملة، أما المنطق الدموي فلم يتبدل فهو يقوم على أساس: تكفير الخصم، وإباحة دمه، وتسويغ العنف باسم الدين، وطاعة الحاكم، وقد اتهم المعسكر الأموي الحسين (عليه السلام) وأتباعه بـالخروج على الحاكم وتفتيت وحدة الأمة، وهو ما يشبه اتهامات التكفيريين اليوم للمخالفين لهم بـالردة أو الولاء للكفار، وفي كربلاء كان العنف أداة للترهيب؛ إذ شملت معركة الطف فصولاً من المأساة منها التمثيل بالجثث، ورفع الرؤوس على الرماح، وأسر النساء والأطفال، وحرق الخيم والمنع من الماء، وفي المقابل نفذت داعش إعدامات جماعية وعلّقت الجثث، وقطعت الرؤوس، واحرقت المنازل، واتبعت سياسة السبي تماماً كما فعل الجيش الأموي.

اعتمد المعسكر الأموي في واقعة الطف على تأصيل منهجي لظاهرة التطرف وتكفير الآخر، فكان التطرف في معركة الطف مرتبطًا بشكل رئيس بموقف الجيش الأموي من الإمام الحسين (عليه السلام) وأنصاره، فقد اتُهم الإمام الحسين (عليه السلام) بالخروج على يزيد بن معاوية، وبالتالي اعتبر بحسب نظرهم خارجاً عن الدين، وهذا ما وفر الحجة لقتاله، وهو أمر ناجم عن فهم مغلوط لنصوص القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم)، وقد تبلور هذا المبدأ المنحرف بشكل رسمي وتام في العصر الحالي عندما ادّعت التنظيمات المتطرفة الخلافة للزرقاوي أو لأبي بكر البغدادي على سبيل المثال، ودعت النّاس إلى بيعتهم والنزول على حكمهم، وكفرت من يرفض ذلك، وأبرز المبادئ التي اتكأ عليها المعسكر الأموي هو مبدأ السمع والطاعة لمن يسمى بالحاكم، ولا نعرف كيف يتصور إنسان يمتلك ذرة من العقل والإدراك بان الحسين (عليه السلام) يكون خارجياً أو مخطئاً، والنبي (صلى الله عليه وآله) يصفه بسيد شباب الجنة؟ وهو إمام المسلمين؛ بما ورد عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) من أدلّة لا يتسع المجال لذكرها، ومن جهة أخرى وبحسب وثيقة الاتّفاق بين مؤسِّس الدولة الأموية والإمام الحسن (عليه السلام)، التي نصَّت على أنّ الخلافة بعد معاوية للإمام الحسن (عليه السلام)، فإن مات فإنّها لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام)، ولاشك أن وصف الإمام الحسين (عليه السلام) بهذا الوصف ما هو إلا لتصحيح فعل الحكام الذين استلبوا الخلافة من أهلها واستولوا على السلطة، وتمكنوا من رقاب المسلمين بلا وجه حق، وهذا الخط امتداد لما تقوم به الجماعات المتطرفة اليوم، فهي ترسخ هذا المفهوم في قلوب اتباعهم، وربما يحاول بعض أتباع هذه التنظيمات أنْ يُلبِسوا باطلَهم ثوبَ الحقّ، فيعلنوا أنَّ طاعتهم لأمرائهم وقادتهم ليست مطلقةً، وإنما هي مُقَيدة بغيرِ معصية؛ ويَسوقون أدلة محرفة من الكتاب والسُّنَّة لكي يبرهنوا على معتقداتهم.

في خطبة طويلة للإمام الحسين (عليه السلام) في ساحة المعركة: … أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ فلم يستجب له أحد، ثم خاطبهم: أما ترون سيف رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ولامة حربه وعمامة علي؟ قالوا نعم، فقال لِمَ تقتلوني؟ أجابوا: طاعة للأمير عبيد الله بن زياد، وهذا جواب ممن لا يملك رأياً ولا إرادة ولا يميزاً بين التبعية العمياء، والطاعة القائمة على الوعي والفهم السليم، فالخلافة والإمامة في منظور المعسكر الأموي تتطابق تماما مع أفكار التنظيمات المتطرفة لكونها خاضعة للبيعة، وليس إلى النص حتى لو كان نصاً نبوياً، وبهذا فقد اعتمد المعسكر الأموي في تأصيل منهجه على فهم مغلوط ومتطرف لنصوص القرآن الكريم وسنة نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله)، وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، حتى يتسنى لهم إيهام أتباعهم أنهم ينطلقون من مبادئ شرعية أصيلة، واستمر هذا المنهج المتطرف حتى العصر الحالي، فعملت الجماعات الإرهابية خلال السنوات الماضية على وضع عقائد خاصة بها أكسبتها صفة القدسية الدينية، ومنها مبدأ السمع والطاعة للأمير، أو الحاكم دون مراعاة للأساس الشرعي والقانوني لهذا الحاكم.

 ونتيجة لهذا المبدأ المتطرف ظهرت الجرأة البالغة على سفك الدماء التي حرم الله سفكها، وقد وصلت تلك الجرأة إلى قتال الإمام الحسين (عليه السلام) ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وأصحابه، وكان المسلمون يومئذ قد وصلهم سماعاً وروايةً قول رسول الله عليه الصلاة والسلام (حسين مني وأنا من حسين)، وقد تحول التطرف في معركة الطف إلى إرهاب تكفيري تمثل بالممارسات العنيفة التي صدرت من المعسكر الأموي على أساس ادّعاء تمثيل الإسلام، وتكفير وتصفية المخالفين، وكانت أرض كربلاء شاهدة على مواقف من الإرهاب التكفيري المتمثلة بالممارسات الوحشية التي مارسها التطرف الأموي، ويمارسها الإرهاب التكفيري المعاصر من قطع الرؤوس بغير حقٍّ، وقتل الأطفال، وحرق البيوت على أهلها الآمنين من الرجال والنّساء والأطفال، وسبي النّساء، وقتل الأسرى، والإبادة الجماعية على قاعدة (لا تبقوا لأهل هذا البيت باقية)، وإلى آخر ما حفلت به قائمة الجرائم الكبرى التي ارتكبتها قوى التطرف التكفيري التي تمتلك قدرة فائقة على حمل بذور الخراب ولا يتخلى عن فكره المنحرف وسمه الدفين.