د. رائد عبيس
من المعروف أن مهنة الطب هي مهنة الرحمة والرأفة بالإنسان، إلا أنها في ظل نظام حزب البعث، أصبح لها غرض آخر يدخل ضمن الخطة البعثية في قتل الخصوم ومحاربة من يشاء منهم. ما يتعلق بالطب المدني منه والطب العسكري، وإذا كان الطب في داخل السجون يصنف على الطب المدني، فهنا تتضاعف المسؤولية أمام الطبيب ولاسيما إذا ما كُلِّفَ بإداء مهام مخالفة لقواعد مهنة الطب وأخلاقها، أو قد يكون الطبيب هو من يمارس مهنته الطبية بسلوك بعثي، أي يحول المهنة إلى أداة ووظيفة سياسية وليست إنسانية كما يراد لها.
شاع عن أطباء السجون في زمن البعث سوء تعاملهم، وعدم إنسانيتهم، وعدم جديتهم في التعامل مع الحالات الطبية المستوجبة للعلاج السريري وغير السريري. بل عرف عنهم تهاونهم مع المرضى وحالاتهم المستعصية، والمزمنة، والطارئة، ببرود وعدم تفاعل واستجابة؛ لإلحاق مزيد من الأذى والضرر بالمعتقل، أو السجين المحكوم، وغير المحكوم المريض، بل يصل بعضهم حد الموت من شدة ما يتعرض له من حالة مرضية شديدة.
كانت طريقة علاجهم توحي بمساهمة فاعلة بقتل المعتقلين، والمسجونين والمتهمين، سواء في حالاتهم الطبية الاعتيادية، أو الحالات الصحية الناتجة عن التعذيب، والضرب، وسوء التغذية، والإهمال في الأجواء الحارة والباردة، أو المكتظة بالمعتقلين وحالات الاختناق أو في حالات التعذيب النفسي، فضلاً عن تخليهم عن واجباتهم المعدة سلفاً ضمن منهاج إدارة السجن في متابعة الحالات المرضية، ومن لديه حالات مزمنة مستوجبة للعلاج، ومتابعة لحالات المرضى الخطرة منهم، أو التوصية بنقل الحالات الخطرة إلى المستشفى والطوارئ والمتابعة، أو معالجة الحالات النفسية عند من يتعرضون لأضرار نفسية نتيجة التحقيق أو الاعتداء، أو الكآبة نتيجة أجواء السجون.
فضلاً عن الأخلاق البعثية الطبية السيئة، هناك ضعف وانعدام تجهيز بالمستلزمات الطبية، مثل: أجهزة فحص الضغط، والسكر، ومستلزمات الحالات الطارئة. سواء في داخل العيادات الطبية داخل السجون، أو حين نقلهم إلى المستشفى الرشيد العسكري. ويذكر جبار عبود آل مهودر في روايته (القضبان لا تصنع سجناً، ص501) كان السجناء من الأطباء الصيادلة مثل الدكتور سعد محمد علي، يساعدون على تحضير أدوية من مواد كيميائية يحصلون عليها بطريقة ما في داخل السجون لمعالجة المرضى منهم، وفتح صيدلية مجانية لتوزيع الأدوية التي يتمكنون من إنتاجها على المرضى وإسعافهم بها.
صورة من داخل سجن (أبو غريب)
فكانت في كثير من الأحيان خدمات المستشفيات العسكرية أو مستشفيات بعض السجون هي خدمات شكلية في واقعها، فضلاً عن المساهمة في وسائل التعذيب التي تطال السجناء، عن طريق إعطاء أدوية غير مناسبة، أو المساعدة في تحضيرات كيميائية مميتة، أو مضرة بالجسم، فتسبب حالات من الإسهال، أو الإمساك، أو التسمم، أو الغثيان، أو فقدان الوعي، أو فقدان الذاكرة، أو فقدان القدرة الجنسية، أو فقدان النطق، أو فقدان القدرة على المشي والحركة، وما إلى ذلك من الآثار الجانبية، لما تسببه سوء الخدمات في طبابة البعث للسجون. وكانت مهمة الطبيب في تلك السجون، هو الكشف على المرضى من دون إسعافهم، وفحص جثامين المعذبين المنتظرين للموت، أو كتابة حجة الوفاة، أو الشهادة في لجان الإعدامات حين التنفيذ.
فالطبيب في هذه الحالة لم يظهر كقاتل مساهم في ارتكاب عملية قتل بحق المعتقلين، أو السجناء مع من يعدهم البعث أعداء له؛ لأن البعث هنا استعمله كقاتل مستتر يختبئ تحت مهنة الرحمة والإنسانية، فيفقده الشعور بها تحت عمى الولاء البعثي الصدامي الإجرامي. انظر لمثل هذه الحالات: (رياض الحكيم، في سجون البعث، ص 143).
شواهد:
ومن شواهد هذا القتل الصامت المستتر، ما رواه السيد رياض الحكيم في كتابه (في سجون الطاغية) من قصص الإهمال الطبي المتعمد بقصد الإضرار بالمعتقلين، فتسبب لهم تلف لأحد أعضاء الضحايا أو استشهادهم، مثل: حالة السيد غياث الحكيم الذي أصيب بالتهاب في اللوزتين ثم تطور إلى التهابات في الكلية، فمنع عنه العلاج والطبيب المعالج حتى ساءت حالته، ونقل للمستشفى، ومات بحالة غامضة، فيرجع مقتله ما تسبب به الطبيب والإهمال الطبي. (الحكيم، رياض، في سجون الطاغية، ص 145).
ويروي السيد حسن شبر، حالات تعامل الطبيب بوصفه قاتلاً مساهماً في جرائم القتل داخل السجون، فيقول: لم يحضر طبيب لقصر النهاية طيلة بقائي فيه، إلا مرة واحد ويعالج جميع الأمراض والمصابين من السجناء بثلاثة أنواع من الحبوب هي: حبوب الإسهال، والصداع، والحمى، وتمنح بالعادة من دون فحص، بل بحسب شكوى المريض وإن كان يشكو من أمراض مزمنة أو خطيرة! (شبر، حسن، صفحات سوداء من بعث العراق، ص 65).
ومما لا ريب فيه، فقد ارتكب النظام البعث انتهاكات إنسانية جسيمة في إطار معاملة النزلاء، وتجاوز لجميع حقوق النزلاء والمودعين، ومراعاة شؤونهم. مثلا في المادة ثالثا/ من المادة 17 من قانون المؤسسة العامة للإصلاح الاجتماعي رقم (104) لسنة 1981، جاء فيها (تجري الفحوصات الطبية والنفسية والاجتماعية للنزلاء وتصنيفهم على أساس ذلك خلال مدة أقصاها شهران من تاريخ التحاقهم بالمركز) والحقيقة لم تكن كذلك، بل يتم خلط الأصحاء مع المرضى بالأمراض المعدية بشكل إجباري لنقل العدوى، ومنع الرعاية الطبية عنهم، ومنه منع طبيب السجن من القيام بدوره، سواء كان بأوامر إدارة السجن، أو بتخلي الطبيب عن دوره مساهمة منه لقتل وإيذاء النزلاء. فضلاً عن استغلالهم للتجارب الطبية والبايولوجية، وكذلك ما جاء في مادة 33 (يوفر العلاج الطبي المجاني للنزيل والمودع). ومادة 34: أولا – تتولى وزارة الصحة تقديم الخدمات الصحية، والوقائية، والعلاجية للنزلاء، والمودعين. ثانياً – تنشئ وزارة الصحة قسما للشؤون الصحية أو مركزاً صحياً حسب مقتضى الحال في كل قسم من أقسام الإصلاح الاجتماعي يتولى الإشراف على الصحة الجسمية، والعقلية، والنفسية للنزلاء، وتقديم الخدمات الصحية والوقائية، والعلاجية لهم. ثالثاً – تحدد بتعليمات يصدرها وزير الصحة مهام واختصاصات قسم الشؤون الصحية والمركز الصحي.
فضلا عن انتهاكه للقوانين الدولية التي توصي بحماية حق النزيل بالرعاية الصحية والطبية. كما جاء في المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء في المبدأ التاسع منه، وكما جاء في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية: في مادته السابعة. وكما جاء في اتفاقية مناهضة التعذيب المقرة في 1984، والنافذة في 1987، في مادته السادسة عشرة. وكذلك مخالف لما جاء في مضامين بروتوكول إسطنبول الذي يعد المشاركة بطريقة إيجابية أو سلبية، بأعمال تشكل مشاركة في التعذيب، أو تغاضياً عنه بأي شكل من الأشكال يعد مخالفة جسيمة لآداب مهنة الطب. (بروتكول إسطنبول، ف 52، ص 22).
فطبيب السجون في عهد النظام ليس طبيباً عادياً، بل هو طبيب مؤدلج يمارس أدواراً سياسياً إلى جانب دوره المهني، كما أشرنا سابقاً، وهذا أنعكس سلباً على طبيعة الدور القانوني الذي عليه ممارسته عند أدائه مهنته داخل المؤسسة السجنية، فعليه مثلاً توثيق حالات الانتهاك الطبي، وحالات التعذيب المؤذي جسدياً، وحالات الوفيات الطبيعية، وغير الطبيعية منها، وحالات الانتهاك الصحي لجسد المريض وحقه في تلقي العلاج، والنقل للمستشفى، وطلب المعالجة الشخصية. وأرشفة تاريخ الحالات المرضية للنزلاء للعلاج البدني والنفسي، ومنع حالات الإيذاء وتعذيب المرضى منهم، مع ضرورة توفير رعاية صحية كافية لسلامتهم. وهذا الحق أشارت إليه جميع المدونات الحقوقية في مجال صحة النزلاء، ومناهضة التعذيب، ومنها بروتوكول إسطنبول الذي أشار إلى أن واجب الأطباء أن ينصرفوا دائماً على الوجه الأفضل للمرضى. (بروتوكول إسطنبول، فقرة 61، ص 23).
كل هذه الحقوق تجاهلتها إدارات السجون البعثية لأجل إخفاء أثر كثير من ضحاياهم المعذبين، أو المقتولين، تحت التعذيب داخل السجن أو المرضى الذين يهملون لحين موتهم من شدة ما يعانون من أوجاع، وأمراض مزمنة، وسوء رعاية وما شابه ذلك. فضلاً عن تزييفهم حقائق حالات الضحايا، مثلاً إن مات أحدهم بسبب التعذيب قالوا عنه مات بسكتة قلبية مثلاً، وكتبت حالته في شهادة الوفاة كذلك، وإن مات أحدهم بسبب الإهمال الطبي وسوء الرعاية الصحية كتبت حالته في شهادة الوفاة مات بمرض مزمن، وهكذا تتم عملية تزييف تاريخ الحالات المرضية وحالات الوفاة جراء التعذيب. ذكرت مثل هذه الحالات في شهادات الناجين من أساليب التعذيب هذه، مثل: شهادة السيد رياض الحكيم، في كتابه (في سجون البعث، ص 149). وشهادة السيد حسن شبر كما جاء في كتابه المذكور في أعلاه. وهذه الشهادات تثبت انتهاك حزب البعث وإدارة سجونه والأطباء العاملين وذوي المهن الطبية لجميع مهامهم الوظيفية في رعاية المرضى، وحفظ حقهم بالعلاج، وكتمان ظروفهم الصحية، أو المحافظة على سريتها، فكان أطباء البعث يساهمون في إفشاء أسرار المرضى، بل وانتهاك كل خصوصية لهم أمام النزلاء أو أمام إدارة السجن؛ لأنهم كانوا يطلبون منهم بيان حالتهم الصحية من خارج القضبان، وعلى المريض أن يصيح بأعلى صوته حتى يسمع الطبيب عن خصوصية حالته المرضية، فالسجل التاريخي المرضي مكشوف أمام إدارة البعث في تجاوز واضح لكل المواثيق، والمدونات المحلية والدولية المطالبة بالمحافظة على هذا الحق بالنسبة للنزلاء المرضى، فكان عليهم على وفق ما جاء به بروتوكول إسطنبول رفض التقيد بأي إجراء قد يضر بمرضاهم أو يعرضهم لأذى بدني أو نفسي. (بروتوكول إسطنبول، فقرة 67، ص 27). إلا أن أطباء حزب البعث كانوا متماهين مع إجراءات السلطة، وجزء من ممارساتهم في النيل من خصومهم النزلاء. وما تقدم يمثل نموذجاً من حجم انتهاك حزب البعث، لكل القوانين، والمواثيق، والاتفاقيات المانعة للإضرار بالنزلاء المعارضين، إلا أن النظام أتبع أساليب التصفية، تحت مهمة الطبيب القاتل المستتر.