أ.د. حسين الزيادي
في قضية إعدام التجار 1992 لم تكن هناك محكمة شرعية تمتلك أدنى مقومات العدالة، بل كانت محكمة صورية، فلا شهود، ولا محامي دفاع عن المتهمين، فضلاً عما شاب عملية الإعدام من فوضى ومخالفات وانتهاكات؛ لأنها جرت خارج نطاق القانون، ولم تستوفِ الإجراءات القانونية، وحماية حقوق المحكوم عليهم، وكانت الأحكام معدة مسبقاً كما تقدم من شهادة القاضي الذي أنيطت به القضية.
الخروقات القانونية إزاء قضية إعدام التجار 1992:
يمكن إدراج الخروقات بما يأتي:
1- ليس هناك مذكرة قضائية بإلقاء القبض على التجار، بمعنى آخر أن الأمر جرى بعيداً عن الإجراءات القضائية والقانونية، وهو أمر يتعارض مالقانون وللمنازلالعراقي 111 لعام 1969، إذ ورد في الفصل الثاني من المادة (92 لغاية المادة 108) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23 لسنة 1971) المعدل إجراءات أوامر إلقاء القبض، وفي المادة (92) مُنع القبض على أي شخص أو توقيفه إلا بمقتضى أمر صادر من قاضي أو محكمة أو في الأحوال التي يجيز فيها القانون ذلك، وقد نصت المادة (93) أن يشتمل أمر إلقاء القبض على معلومات كاملة عن اسم المتهم ولقبه وهويته وأوصافه ومحل أقامته ومهنته ونوع الجريمة المسندة إليه ومادة القانون المنطبقة عليه ومعلومات أخرى، بينما جرت عملية إلقاء القبض على التجار بشكل عشوائي ومن دون تعيين مسبق، وهذا يفسر لنا إعدام أناس كانوا موجودين في محلات التجار ساعة الاعتقال، فالأمر لا يتعدى اعتقال من كان موجوداً في محلات التاجر ساعة اقتحامه، وأن هذا الفعل يعارض المادة الثانية والعشرين من الدستور العراقي 1970 الذي نص على: كرامة الإنسان مصونة، وتحرم ممارسة أي نوع من أنواع التعذيب الجسدي أو النفسي ولا يجوز القبض على أحد أو توقيفه أو حبسه أو تفتيشه، إلا وفق أحكام القانون وللمنازل حرمة، لا يجوز دخولها أو تفتيشها، إلا وفق الأصول المحددة بالقانون.
2- الجريمة تعني فعل مخالف للقانون يعاقب عليه بموجب نصوص قانونية مثبتة، وقد تكون نتيجة عمل عمدي أو إهمال، وفي حادثة اعتقال التجار لم تكن هناك جريمة؛ لأن الأخيرة تتكون من أركان أساسية، وهي: الركن المادي (الفعل أو الامتناع)، الركن المعنوي (القصد الجنائي أو الإهمال)، والركن القانوني الشرعي (وجود نص قانوني يعاقب عليها)، هذه الأركان تسهم في تحديد مسؤولية الشخص عن الجريمة والعقوبات المترتبة عليها، وهذه الشروط والأركان لا وجود لها في قضية التجار، فضلاً عن عدم وجود العلاقة السببية بين الفعل والنتيجة، أي الصلة التي تربط بين الفعل المرتكب والنتيجة الضارة، بحيث تكون النتيجة بسبب الفعل، وأن هذا الفعل يتعارض مع دستور 1970 الذي نص في المادة الثانية والعشرين: لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا تجوز العقوبة إلا على الفعل الذي يعتبره القانون جريمة أثناء اقترافه. ولا يجوز تطبيق عقوبة أشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجرم.
3- المحكمة التي شكلت كانت صورية: وأن المحكمة التي أنشأت ضمن توجيهات قرار مجلس قيادة الثورة المنحل كانت قراراتها قطعية، أي لا تقبل الطعن، وهذا مخالف لأصول المحاكمات وحق الدفاع أمام المحاكم، وأنه يتعارض ومبادئ دستور 1970 الذي نص في الفصل الرابع على أن حق التقاضي مكفول لجميع المواطنين.
4- لو افترضنا جزافاً صحة التهم الموجهة للتجار، فهي لا تستحق عقوبة الإعدام بحسب القوانين العراقية، إذ لابد من إسناد العقوبة إلى جنس الضرر الذي ألحقه التجار، ولا ينبغي أن تكون شدة العقوبة أكبر من خطورة الجريمة، وإلى ذلك أشارت المادة 19 من قانون العقوبات العراقي: العقوبة شخصية ولا تكون أشد مما ينص عليه القانون، بينما أشارت المادة 77 إلى صلاحية القاضي في تحديد العقوبة ضمن الحدود القانونية مع مراعاة ظروف الجريمة والجاني، و المستقر عليه فقهاً وقضاءً هو خضوع العقوبة لمبدأ التناسب بينها وبين الجريمة، وأن ذلك مرهون بعدم الغلو والإسراف في العقاب.
5- لم يسمح للمتهمين بانتداب محامين، بل قامت المحكمة بانتداب محامين يعملون في مؤسسات النظام، وهؤلاء طالبوا بتنفيذ أقسى العقوبات، ولا يجوز قانوناً للمحامي المنتدب أن يطالب بتشديد العقوبة، إنما يطالب بالرأفة والرحمة، وأن هذا الفعل يتعارض مع مبادئ دستور 1970 الباب الثالث / المادة (20) والذي نص على: حق الدفاع مقدس، في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة، وفق أحكام القانون.
6- حقيقةً كان حكم الإعدام تعسفياً خارجاً عن إطار الإجراءات القضائية، وغير صادر عن محكمة مختصة ومستقلة، وحرم الضحايا من اللجوء إلى سبيل للانتصاف وفقًا للأصول القانونية؛ وهذا النوع من أحكام الإعدام محظور بشدة بموجب القانون الدولي الإنساني سواء في أثناء السلم أو الحرب، وفي جميع الأحوال لا يجوز أن تصدر عقوبة الإعدام إلَّا نتيجة لحكم نهائي تصدره محكمة مختصة بموجب القانون ووفقًا للقواعد والمعايير الأصيلة (المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية).
7- لم تكن هناك إجراءات تحقيقية مدونة، وهذا ما أكده القاضي كما اتضح سابقاً، وقد أوجب القانون ضمانات قانونية، وحقوق دفاعية للمتهم تضمن التحقيق العادل للوصول إلى الحقيقة، ويدون ذلك في محاضر خاصة، ومن أهم الضمانات القانونية ما جاء في المادة (123) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل باستجواب المتهم خلال أربعة وعشرين ساعة من حضوره، بعد إحاطته علماً بالتهمة المسندة إليه، وحضور محامٍ للدفاع عنه، وبشكل عام فإن الإجراءات التحقيقية هي حجر الزاوية في نظام العدالة، وهي ضرورية لضمان حقوق المتهم، وكشف الحقيقة، وإثبات الجريمة، وتحديد المسؤولية، ومنع الإجراءات التعسفية، وتحقيق العدالة، ويشكل المبدأ العام أن الأصل في المتهم البراءة، إذ ورد في الفقرة (1) من المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 (إن كل شخص متهم بجريمة يعدُّ بريئا إلى أن تثبت إدانته قانوناً بمحاكمة علنية تؤمن له الضمانات للدفاع عن نفسه)، كما نص دستور 1970 المؤقت الذي يفترض أن يتقيد به نظام البعث ويخضع لبنوده في المادة (20) أن المتهم بريء حتى تثبت أدانته في محاكمة قانونية، وأن حق الدفاع مقدس في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة على وفق أحكام القانون.
8- طال حكم الإعدام الجميع بدون استثناء، ودون مراعاة للعمر، فيقول عبد الأمير الساعدي أن والده كان عمره 75 سنة وتم إعدامه.
شهادات وأدلة
1- التسلسل الأخير بالقائمة (مهدي واشي) لم يكن تاجراً، بل كان عاملاً في محل أحد التجار في منطقة جميلة، ومحل سكناه في مدينة الثورة – مدينة الصدر حالياً، علما أن مهدي واشي كان يتقاضى مرتباً أسبوعيا بسيطاً، لا يكفي لسد رمق عائلته.
2- ورد في قائمة التجار اسم المرحوم (زهير فاضل يعقوب)، وهذا الرجل لم يكن تاجراً، بل هو معلم وكان في زيارة إلى محل عمه أبي زوجته وصادف أن يذهب العم لعمل ما، ويترك المرحوم زهير في محله التجاري فتم اعتقاله وإعدامه ظلما وبهتانا.
3- ورد من ضمن المعدومين المرحوم (غسان القرغولي) وهو موظف والمحل كان لشقيقه في سوق الشورجة يذهب إليه في بعض الأوقات، ولحظة القبض على التجار كأن غسان موجوداً في المحل وشقيقه كان ذاهباً في مشوار معين، وتم أخذه بدل شقيقه وأعدم (رحمه الله).
4- عندما دخل الحرس الخاص إلى الشورجة وبدأ بجمع التجار، دخل أحد أفراد الحرس الخاص إلى محل لبيع البهارات، وقام أحد الحرس بدفع صاحب محل بقوة، وكان رجلا كبيرا، فقام ابن صاحب المحل بالدفاع عن والده؛ مما أغضب جماعة الحرس؛ فأخذوه وأعدموه مع التجار.
5- بعد إعدام الحاج لطوفي وابنه سالم، وهما من أهالي الأعظمية، تم تشييعهم والصلاة عليهم، فتم إثر ذلك اعتقال المصلين لمدة أقل من سنة، وكانوا عشرة أشخاص أو أكثر.
6- أحد الضحايا الذين ورد اسمهم في القائمة والذي يحمل تسلسل (22) موسى سيد بندر كان يبيع صابوناً على الأرض بجوار محل تاجر مواد غذائية كلفه صاحب المحل أن يبقى في المحل لحين ذهابه إلى دورة المياه، وعند قدوم الحرس المكلفين بالقبض على التجار تم القبض على المظلوم موسى وأعدم ظلماً.
7- كان هناك شاب في المرحلة الثالثة من كلية الهندسة بعد أن أكمل دوامه ذهب إلى محل والده في الشورجة، وذهب والده للاستراحة وتناول وجبة الغداء، وفي هذا الوقت تم القبض عليه وأعدم.
8- يبدو أن الفوضى التي حدثت خلال عمليات الإعدام كانت بسبب إعدام البعض سهواً أو خطأً في هويات المعدومين، والدليل على ذلك أن هناك تاجراً أعدم في هذه المحكمة واستلمت جثته من قبل ذويه، ولم يرد اسمه في أمر الإعدام واسمه (لفتة علي محمد أمين البلداوي).
نتائج الجريمة
1- انهيار العملة العراقية: بعد عمليات الإعدام ارتفعت الأسعار أضعاف ما كانت عليه؛ بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار. يقول أحد الناجين إن صفيحة الزيت ارتفع سعرها من 4 آلاف دينار عراقي إلى 20 ألفاً.
2- ترك بعض تجار الجملة العمل واتجهوا إلى نشاطات اقتصادية أخرى.
3- إشاعة الخوف والذعر بين أبناء الشعب وانعدام الامن الاجتماعي المرتبط أساساً بالأمن الاقتصادي؛ بسبب السياسة العبثية للنظام البائد.
معاناة أهالي الضحايا:
ذكر أهالي الضحايا بعد عام 2003 أنه بعد الحدث كانت هناك سلسلة من المعاناة والصعوبات على رأسها الخوف من تكرار الأمر مع بقية أفراد العائلة، فضلا عن عدم السماح لنا بإقامة مجلس عزاء، وبعض الجثث بحسب أهالي الضحايا تعرضت للتمثيل وسمل العيون، وكانت التوجيهات صارمة لأهالي الضحايا بدفن موتاهم سراً وعدم إقامة مجالس العزاء، وتخلى الأصدقاء عن تلك العوائل؛ خشية ملاحقة الأجهزة القمعية، يقول أحد ذوي الضحايا: أصبحنا ننظر بحذر إلى كل شيء حتى إلى المقربين؛ خوفا من مجهول يطرق الباب على حين غفلة ليسوقنا إلى كتيبة الإعدام من دون أن ندري ما الذي جنته أيدينا، وكنا نشعر بالمراقبة على الدوام.
جريمة ضد الإنسانية:
يمكن وصف جريمة إعدام التجار العراقيين عام 1992 بأنها جريمة ضد الإنسانية؛ لأنها عبارة عن هجوم واسع أو منهجي على مجموعة من السكان المدنيين، والجاني على علم بهذا الهجوم، والجريمة ضد الإنسانية تعني بالتحديد أي فعل من الأفعال المحظورة والمحددة في نظام روما متى ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وبحسب منظمة العفو الدولية فإن الجرائم ضد الإنسانية تعرف بأنها جرائم تُرتكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو ممنهج ضد السكان المدنيين كجزء من سياسة الدولة أو سياسة ممنهجة في أثناء مدة السلم أو الحرب، ثم عرّفتها المحكمة الجنائية الدولية على أنها الأفعال التي يتمّ ارتكابها في أوقات النزاع وأوقات السلم، وقسمتها المحكمة الجنائية على خمسة عناصر أساسية ضمنها:
1. أن يكون العمل غير إنساني في طبيعته وخصائصه؛ ويسبب آلاما شديدة، أو إصابة خطيرة للجسم، أو للصحة العقلية، أو البدنية.
2. أن يكون العمل قد ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو ممنهج.
3. أن يكون العمل قد ارتكب ضد السكان المدنيين.
المصادر:
1. محمد طه حسين، حكومة الإعدام في التشريع العراقي، العدد التاسع، 2008
2. مجموعة من اللقاءات مع الناجين وذوي الضحايا التي عرضتها تقارير قناة العربية وقناة العراقية.
3. محمد نجيب حسني، شرح قانون العقوبات القسم العام، دار النهضة العربية، ط ٥، 1982
4. عبد الله كاظم الشمري، القبض كإجراء ماس بالحرية الشخصية، رسالة ماجستير، جامعة بغداد، ١٩٩
5. نبيل عبد الرحمن، قانون أصول المحاكمات الجزائية، بغداد، مكتبة النهضة، ١٩٩٨
6. الدستور العراقي المؤقت 1970