banarlogo

القمع الاقتصادي والإرهاب القضائي الانتهاكات القانونية والدستورية إزاء قضية إعدام التجار 1992 الجزء الأول

أ.د. حسين الزيادي

 

 

 

التعريف بجريمة إعدام التجار:

هي قضية أصدر فيها صدام توجيهاته يوم 25-7 -1992 إلى مدير الأمن العامة سبعاوي إبراهيم الحسن ووزير الداخلية وطبان إبراهيم الحسن، وهما أخوة صدام حسين من  جهة الأم، للقيام بحملة لاعتقال تجار المواد الغذائية في سوقيّ الشورجة وجميلة في بغداد، الأمر الذي أسفر عن اعتقال 200 تاجر انتقي منهم 42 تاجراً أرسلوا في عصر اليوم نفسه إلى المحكمة الخاصة في وزارة الداخلية، واستمرت المحاكمة حتى بعد منتصف الليل، وانتهت المحكمة بإصدار أحكام الإعدام على الجميع بلا استثناء، ونفذ الحكم في اليوم التالي مباشرةً دون إعطائهم فرصة لمقابلة ذويهم، وبدون حضور للادعاء العام، أو رجل الدين، فضلاً عن  أحكام الإعدام تم قطع الأيدي والوشم بين الحاجبين لتجار آخرين، وكما يتضح من الوثائق المرفقة ربطاً.

 

التهمة الموجهة:

التهمة التي أعلنها نظام البعث هي تخريب الاقتصاد العراقي من خلال رفع أسعار المواد الغذائية، وهي تهمة كيدية جائرة؛ لأن السوق يخضع لعوامل العرض والطلب، وهي قاعدة اقتصادية بديهية تقوم على أساس تكلفة المنتج، وكيفية تأثره بعاملين أساسيين هما الندرة، أو مستوى العرض، وطلب المستهلك؛ وبسبب شحة العرض في السوق نتيجة الحصار الاقتصادي وارتفاع نسب التضخم الناجم عن طبع العملة الورقية تضاعفت أسعار المواد الغذائية؛ لأن الهيكلية الاقتصادية لنظام البعث كانت مبنية على وفق رؤية شخصية شمولية، ولا يوجد قانون في العالم يسمح بإعدام التجار بسبب غلاء الأسعار، وحقيقة الأمر أن من يجب أن يُعاقب هو من تسبب في وجود الحصار.

 

توقيتات المحاكمة وإجراءاتها:

كما يتضح من الوثائق المرفقة ربطاً أن هناك سرعة غير طبيعية في إجراءات المحاكمة وتوقيتاتها، فقرار مجلس قيادة الثورة كان في يوم 25-7-1992، وتشكيل المحكمة كان في اليوم نفسه، والإحالة للمحكمة كان أيضاً يوم 25-7-1992، وقرارات الإعدام أصدرت في اليوم نفسه، وهذه أسرع محاكمة عرفها تاريخ القضاء على مستوى العالم، الأمر الذي يشير بشكل لا يقبل الشك إلى أن قرار الإعدام كان مُبيّتاً.

 

المحكمة:

هي محكمة مديرية الأمن العامة، وكما يتضح من الوثائق المرفقة ربطاً كانت برئاسة وطبان إبراهيم الحسن، والقاضي محيي عذاب، الذي وفر الغطاء القانوني للمحاكمة، وأصدرت أحكامها بالإعدام شنقاً حتى الموت استناداً إلى قرار مجلس قيادة الثورة رقم 15 في 15-1-1992، وقرار تشكيل المحكمة اعتمد إلى أحكام الفقرة  (1) من المادة (42) من الدستور المؤقت 1970، ولا ريب أن هذه الفقرة وفرت الغطاء الشرعي لكل جرائم البعث؛ لأنها أعطت مجلس قيادة الثورة صلاحيات واسعة في التشريع والتنفيذ، وتضمن قرار مجلس قيادة الثورة تشكيل محكمة خاصة في مديرية الأمن العامة برئاسة عميد الأمن … وعضوية عقيد الأمن…. وعقيد الأمن…..(لم تذكر الأسماء بحسب الوثائق المرفقة ربطاً)، ويكون عقيد الأمن الحقوقي عماد هاشم عبد الكريم مدعياً عاماً، وهذا الأخير أوصى بإنزال أقسى العقوبات، وهو الوحيد الذي ذكر اسمه في كتاب تشكيل المحكمة، ونتيجة لهذا أحال رئيس ديوان الرئاسة المتهمين مباشرةً إلى المحكمة كما يتبين من قرار الإحالة المرفق ربطاً.

 

طريقة الإعدام:

يقول أحد التجار المحكومين (محمد خليل) تم ترحيلنا بسيارات لا نوافذ لها إلى سجن (أبو غريب)، ثم نودي علينا فرادى، وتم تسجيل الاسم الرباعي واسم الأم في شهادة الوفاة، وسبب الموت؛ وهو (تنفيذ حكم الإعدام شنقاً)، ثم تم البدء بتنفيذ أحكام الإعدام واحداً بعد الآخر، بعد أن تم إعدام 36 تاجراً ساد جو من الفوضى لا نعلم سببه وبقي أربعة تجار لم ينفذ بهم الحكم، وتم تأجيل إعدامهم إلى اليوم التالي، لكن الحكم لم ينفذ وبقينا أحياء بحسب شهادة  محمد خليل؛ وهو أحد الناجين الأربعة، ويبدو أن هناك نوعاً من الفوضى شابت عملية الإعدام، وأن هناك أحد الضحايا أعدم سهواً أو عن طريق الخطأ، فقد كانت عبارة عن مجزرة دموية تعسفية جرت بسرعة كبيرة بناءً على تعليمات السلطة العليا، عموماً أدى ذلك إلى تأجيل إعدام الباقين الأربعة إلى اليوم التالي، ثم لم يتم التنفيذ؛ لسبب غير معروف، وفي ذلك يقول سعدون جبار الساعدي وهو أحد الناجين الأربعة كانت محاكمة فريدة لم تستغرق سوى ساعات قليلة، وكان قرار الحكم مكتوبا وليس مطبوعا، وعندما  قرأ القاضي الحكم بالإعدام استغربنا جميعاً وبقي أحدنا ينظر للأخر بدهشة، فلم نقترف جريمة، ولم نخالف القانون.

 

الربط بالأعمدة

يتحدث أحد الناجين وهو سليم حسن عبود كان يوم 24-7-1992 يوماً مشؤوماً، حيث تعرض سوق جميلة في الساعة الثامنة إلى هجوم كبير من الأمن الاقتصادي، والاستخبارات، والأمن العامة، ومختلف صنوف الأجهزة القمعية، وتم اعتقال العشرات من التجار والعمال والمحاسبين، وهناك تم تقسيمنا إلى وجبات، حيث تم ربط البعض منا على الأعمدة وكتبوا على صدروهم  لافتات  (هؤلاء الجشعين هم من جوعوا الشعب العراقي)، وقد كنت مربوطاً على أحد الأعمدة في شارع عشرين في منطقة البياع، حيث تعرضت (والكلام لاحد الناجين) لأذى نفسي عميق، وأنا أرى الجميع يتجمعون حولي، والأمر ينطبق على بقية التجار، وهذا الفعل مخالف لدستور 1970 المؤقت الذي نص في المادة الثانية والعشرين على أن: كرامة الإنسان مصونة، وتحرم ممارسة أي نوع من أنواع التعذيب الجسدي أو النفسي، ولا يجوز القبض على أحد أو توقيفه أو حبسه أو تفتيشه، إلا على وفق أحكام القانون، وأن هذا الفعل مخالف للمادة السابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي نص في المادة السابعة على: لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة.

 

شهادة القاضي

بعد تقرير لقناة العربية عن جريمة إعدام التجار تهافت أهالي الضحايا إلى القناة للحصول على الصور والوثائق التي تثبت براءة ذويهم، وقد ذكر التقرير وفاة القاضي الذي أصدر الحكم، إلا أن الأخير وهو محيي جابر عذب جاء إلى قناة العربية مطالبا بحق الرد، مؤكداً بعد جدال مع بعض ذوي الضحايا أن القرار سياسي وليس اقتصادياً، تم بناءً على اجتماع لمجلس الوزراء قبل إلقاء القبض على المتهمين، والقاضي يعترف أن أكثر الذين ألقي القبض عليهم هم كسبة وعمال، وظهر أحد أخوة الضحايا وهو يسأل القاضي عن أخيه الذي ظهر في الصورة ضمن الضحايا قائلا: أخي لم يكن تاجراً؛ بل طالب كلية هندسة في المرحلة الثالثة على أي أساس حُوكم؟ هل كان يمتلك هوية غرفة التجارة؟!

إذن بحسب شهادة القاضي أن القرار سياسي، والمحكمة كانت صورية، والأحكام كانت جاهزة، وذكر القاضي أنه تم استدعاؤنا، وبقينا إلى الساعة الخامسة عصرا، وكان الهدف من المحكمة إضفاء صفة الشرعية على الحكم الذي تم اتخاذه مسبقا، وأن المتهمين والشهود لم تدون أقوالهم قضائياً، وقد وجدت هيئة المحكمة أن إضبارة القضية مليئة بالمخالفات والنواقص فطلبت – والكلام للقاضي – من وزير الداخلية وطبان إبراهيم الحسن إكمال النواقص الشكلية على الأقل، وأنه لا يجوز محاكمة هذا العدد دفعة واحدة، وبنفس الوقت، وهذا الشيء مخالف لقانون المحاكمات الجزائية، فقال لي (هذه قضية محالة لكم بالإعدام، احكموا فيها بالإعدام وبأقصى العقوبات، ولا أريد أحد يكلمني).

وبشكل عام أن إجراءات المحاكمة تشير بوضوح إلى أن القضاء العراقي كان أداة طيعة لسلطة البعث، التي هيمنت على السلطات الثلاث، ووضعتها تحت تصرف الحاكم، وكانت المحاكمات تتم وفقاً لأهواء السلطة السياسية، وتفتقر إلى أبسط معايير العدالة والنزاهة والإجراءات القانونية.

أما فيما يتعلق بالقاضي فلا يجوز له إصدار حكم خاطئ، ولا يجوز له إعطاء الشرعية للأحكام الظالمة، حتى لو كان مجبراً أو تحت التهديد، ولا يجوز أن يتحول إلى أداة لتنفيذ أجندات سياسية بدلاً من تحقيق العدالة، وعليه أن يطلب التنحي عن أي قضية يشعر أن هناك ضغوطاً تمارس عليه، فالقضاء يجب أن يكون مستقلاً ونزيهاً، والقاضي ملزم بالالتزام بالقانون وتطبيقه على الوقائع، والقاضي الظالم والضعيف يشكل خطراً على العدالة، وفساداً للمجتمع، ويفقد الناس الثقة في النظام القانوني، ولا يمكن للقاضي أن يكون ضعيفاً خاضعاً للضغوط السياسية، فالقاضي الظالم يجب أن يحاسب، والقاضي الضعيف يجب أن يُستبعد، ومتى وجد القاضي أن هناك ضغوطاً عليه أن يتنحى عن الدعوة.

 

المصادر:
  1. محمد طه حسين، حكومة الإعدام في التشريع العراقي، العدد التاسع، 2008
  2. مجموعة من اللقاءات مع الناجين وذوي الضحايا والتي عرضتها تقارير قناة العربية وقناة العراقية.
  3. محمد نجيب حسني، شرح قانون العقوبات القسم العام، دار النهضة العربية، ط ٥، 1982
  4. عبد الله كاظم الشمري، القبض كإجراء ماس بالحرية الشخصية، رسالة ماجستير، جامعة بغداد، ١٩٩
  5. . نبيل عبد الرحمن، قانون أصول المحاكمات الجزائية، بغداد، مكتبة النهضة، ١٩٩٨
  6. الدستور العراقي المؤقت 1970