د. عباس القريشي
إن هذا المقال يحلّل بيان المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف، الصادر بتاريخ 19 حزيران 2025، على خلفية استمرار العدوان العسكري على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بنحو مختصر ومن زاويتين: أولهما قانونية ترتبط بمبادئ القانون الدولي الإنساني وميثاق الأمم المتحدة، وثانيهما سياسية وأخلاقية تستند إلى مركز المرجعية في ترسيخ مفاهيم العدالة والسلام وفضّ النزاعات في المنطقة. وتُظهِر الورقة كيف أن المرجعية أصبحت في السياق الإقليمي المعقّد، طرفاً معنويًا ذا نفوذ مؤثر في بيئة النزاع، يُعبّر عن مقاربة أخلاقية – قانونية تُسهم في ضبط الانفلات الجيوسياسي وتحفيز الحلول السلمية.
فمع تفاقم النزاعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط، تتعاظم الحاجة إلى فواعل غير حكومية ذات ثقلٍ معنوي – اجتماعي، تسهم في تقويم السلوكيات السياسية والعسكرية، وتدفع باتجاه التسويات السلمية. ويأتي بيان المرجعية العليا في النجف الأشرف ممثلة بسماحة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله)، في 19 حزيران 2025، ليمثل تدخلًا رفيع المستوى على صعيد الخطاب الديني – السياسي الإقليمي، الذي يستند إلى مبادئ القانون الدولي الإنساني، وقيم العدالة، وضرورة احترام سيادة الدول، وتجنيب الشعوب ويلات الحروب.
أولاً: السياق القانوني للبيان
- تحذير من استهداف القيادة الدينية والسياسية
إن أي تهديد يستهدف شخصيات دينية أو سياسية عليا، يدخل ضمن خانة الاغتيال السياسي المحظور، وهو عمل يُعد انتهاكًا لاتفاقيات جنيف، ولقواعد لاهاي، ولمبادئ الحماية القانونية للأشخاص غير المشاركين مباشرة في الأعمال العدائية.
- خرق لمبدأ السيادة وعدم التدخل
البيان يُبرز أن العدوان يشكل تجاوزًا للسيادة الإيرانية، ما يعد خرقًا للمبدأ الراسخ في القانون الدولي القائل بـعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للدول، سواء عبر العدوان المباشر أو بالتهديد باستخدام القوة.
- جريمة العدوان
أن فعل الكيان في الهجوم على مخالف لأحكام المادة ٥١ من ميثاق الأمم المتحدة باعتباره جريمة عدوان. ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء “الأمم المتحدة” وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالاً لحق الدفاع عن النفس تبلغ إلى المجلس فورا، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلس – بمقتضى سلطته ومسؤولياته المستمرة من أحكام هذا الميثاق – من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه.
ثانيًا: البُعد الإنساني – الأخلاقي في البيان
- رفض الفوضى وتغليب منطق القانون
تحذير البيان من أن المنطقة قد “تخرج عن السيطرة” إنما هو رفضٌ للـ”chaos strategy” التي تمارسها بعض القوى، وتأكيد الحاجة إلى منطق القانون والمؤسسات، في وقتٍ تتآكل فيه مرجعيات الشرعية الدولية.
- مناشدة المجتمع الدولي والدول الإسلامية
تؤكد المرجعية عبر البيان دور الفاعل الدولي المتعدد، وتحمّل المسؤولية للأمم المتحدة والدول الإسلامية على وجه الخصوص، في إطار ما يسمى بـالمسؤولية المشتركة لحفظ السلم، داعية إلى حلول سلمية عادلة للملف النووي الإيراني، بدل التصعيد المسلح.
- تكريس خطاب اللاعنف
يرتكز الخطاب المرجعي على مبدأ اللاعنف (Non-Violence) كخيار استراتيجي، ينطلق من قواعد أخلاقية – شرعية، ويُترجم عبر أدوات القانون الدولي، مثل الوساطة، والحوار، والمفاوضات.
ثالثًا: المرجعية كفاعل غير حكومي في القانون الدولي
من منظور تطوّر القانون الدولي المعاصر، وخاصة مع تصاعد تأثير الفاعلين غير الحكوميين (Non-State Actors)، يمكن تصنيف المرجعية الدينية ضمن الفواعل التي:
تمتلك شرعية معنوية واجتماعية داخل المجتمعات.
تؤثر في سلوك الدول والسياسات الخارجية، خصوصًا في البيئات المتأثرة بالهوية الدينية.
تُنتج خطابات سياسية – قانونية تنسجم مع المبادئ العالمية، كما هو واضح في التزام السيد السيستاني بمبادئ السلم، ورفض الحرب، واحترام السيادة، والعدالة.
رابعًا: الملاحظات القانونية التطبيقية
- حظر استهداف الأشخاص غير المشاركين مباشرة في العمليات العدائية
ورد في البيان “وأي تهديد باستهداف قيادتها الدينية والسياسية العليا”، وهو ما يمثل تحذيرًا من ارتكاب اغتيال سياسي محظور، بموجب المادة 51 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف 1977.
- مبدأ التناسب وعدم التصعيد
يشير التحذير إلى خروج المنطقة عن السيطرة إلى خرق مبدأ التناسب، كما ورد في المادة 57 من البروتوكول الأول، التي تُلزم الأطراف باتخاذ “الاحتياطات اللازمة لتفادي أو تقليل الخسائر بين المدنيين”.
- واجب المجتمع الدولي في السعي إلى التسوية السلمية
البيان يدعو لبذل قصارى الجهود لوقف الحرب، ما يتماشى مع المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على استخدام الوسائل السلمية لتسوية النزاعات.
- دعم التسوية العادلة للملف النووي الإيراني على وفق القانون الدولي
مطالبة المرجعية بحل سلمي للملف النووي يظهر التزامًا بمبادئ معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT)، وقرار مجلس الأمن رقم 2231 لسنة 2015.
وفي الختام يمكننا الجزم بأنَّ بيان المرجعية العليا يعد وثيقة أخلاقية وقانونية تستحق التوقف والدراسة، لما تتضمنه من رفض صريح للعدوان، وتأكيد احترام السيادة، وتحذير من انزلاق المنطقة إلى الفوضى. وهو بذلك: يُعيد التوازن إلى الخطاب الإقليمي في مواجهة صوت السلاح. يمنح المجتمع الدولي فرصة أخيرة لاحتواء التصعيد عبر أدوات القانون الدولي.
يُحمّل الدول الإسلامية واجبًا مضاعفًا في مناصرة السلم، لا عبر بيانات الإدانة فقط، بل بالمبادرات والتحرّك الدبلوماسي الفاعل.
المراجع
- ميثاق الأمم المتحدة، المادة 2(4)، المادة 33.
- اتفاقيات جنيف الأربع (1949) والبروتوكولات الإضافية (1977)، ولاسيما المادة 51 و57.
- النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.
- القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني، اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC).
- معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، 1968.
- قرار مجلس الأمن رقم 2231 (2015).
- Louise Doswald-Beck, Customary International Humanitarian Law, ICRC and Cambridge University Press, 2005.
- محمد باقر الصدر، “الإسلام يقود الحياة”، مؤسسة الصدر، النجف الأشرف، 2005.