أ.د. حسين الزيادي
ستظل مجزرة سبايكر ديناً في أعناق التاريخ، وجرحاً لا يندمل، ودموعاً لا تجف، شباب في ربيع العمر سُحقوا بين أغلال الطائفية ومعاول الوحشية، فتركوا صرخات صامتة في قلوب الأمهات اللاتي ترك الفقد وجعاً في قلوبهنّ، ونيران لا تنطفئ.
في مجزرة سبايكر انهارت عُرى الأمن والسلام أمام طوفان التطرف والجريمة، فكانت المجزرة ترجمة حقيقية لخطابات التكفير والكراهية التي تحولت إلى طقس دموي حافل بعويل الثكالى وأنين الأرامل وصرخات اليتامى، وتجسدت العقلية الطائفية النتنة لتبطش بأبناء الوطن، حيث امتزجت دماء الأبرياء بدموع الأمهات، فكانت للنهر شهادة، وللعالم وقفة صمت خجولة، سبايكر كانت الانتحار الرمزي للقيم الأخلاقية المتطرفة، و انهياراً كاملاً للضمير الإنساني؛ لأن القراءة التحليلية للمجزرة تكشف عن كونها إرهاباً منظماً، وجريمة فكرية قبل أن تكون جريمة إبادة جماعية؛ لأن هذه الجريمة ولدت من رحم التكفير، وبراثن التعصب، فكانت سبايكر نتاج بشع لأفكار ضالة، منحرفة، فهي بحق أكبر عملية غدر عرفها التاريخ الحديث؛ لتكشف بجلاء عن الطبيعية الحيوانية لبعض من حسب على بني البشر، وهي دليل قاطع على دناءة كل من شارك في هذه العملية وخسته التي ينأى لها جبين الإنسانية.
النية الإجرامية
تصنف الإبادة الجماعية بأنها أشد الجرائم الدولية جسامة، وبأنها (جريمة الجرائم)(1)، والإبادة الجماعية ليست مجرد أعمال قتل عشوائي، بل هي جريمة محددة على وفق القانون الدولي تستوجب توافر عناصر دقيقة وفقاً لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، والنظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، وأهم الأركان الواجب توافرها في هذه الجريمة هي النية الإجرامية، ووفقاً لذلك فإن مجزرة سبايكر تعد إبادة جماعية؛ لأن التنظيم المتطرف لديه سياسة مسبقة لارتكاب أعمال إبادة جماعية بحق المكون الشيعي، وهذا ما أثبتته الوقائع والأحداث منذ عام 2004، لكن السؤال الذي يوجه في هذا المجال: هل كان مرتكبو الجريمة على علم بسياسة التنظيم، الجواب تظهره شعارات مرتكبي الجريمة الذين أعلنوا عنها خلال عملية الإبادة ومنها: (اضربوهم بالرقاب)، (لا تبقوا من الروافض باقية)، (اقطعوا رأس الأفعى)،(هذا يوم كيوم بني قريظة)، (اللهم إنا نتقرب بدماء هؤلاء)، وبناءً على ما تقدم ووفقاً لبيانات التنظيم وأفعاله وسلوكه ومباركته للجريمة يمكن الاستدلال على أن أفراد التنظيم ممن ارتكبوا المجزرة كانوا على علم وإدراك بسياسة التنظيم الهادفة للإبادة الجماعية، ولديهم النية نفسها بتدمير الشيعة.
ووجد فريق التحقيق (يونيتيد) أنّ أحد إصدارات الدعاية لعصابات داعش والخاصة بمجزرة سبايكر يمكن أن ترقى إلى تحريض مباشر وعلني يدعو لارتكاب المجازر ضد طائفة إسلامية معينة، فالمقطع الذي عثر عليه الفريق، ومحتواه الصوتي، ورسائله المرئية يُعد في حد ذاته جريمة، بما في ذلك إنتاجه وطريقة نشره العلنية، إذ يحوي دعواتٍ مباشرة للقتل على أساس طائفي؛ ولزيادة زخم المقطع قام داعش بترجمة المحتوى إلى اللغة الإنجليزية وبعض اللغات الأخرى، في حين كان المقطع قد نُشر في البدء باللغة العربية، ويثبت هذا الفيديو البعد الكامل لمجزرة سبايكر.
الجماعة المستهدفة
لقد استمرّت عملية القتل ـ على وفق تقرير فريق التحقيق (يونيتيد) ـ ثلاثة أيام على الأقل، وكان من ضمن الجناة مقاتلي تنظيم داعش ممن دخلوا تكريت في البداية يوم 11 حزيران، وخلايا نائمة تنتمي لتنظيم داعش، وكان أحد الفيديوهات المصورة، وهو فيديو بثه التنظيم بعنوان (اقتلوهم حيث ثقفتموهم(، ينشر بوضوح سياسة تنظيم داعش للإبادة الجماعية ضد الشيعة الاثني عشرية تحديداً، والتحريض المباشر على ارتكاب الإبادة الجماعية من خلال تصوير وتنقيح ونشر وتوزيع أفلام فيديو لتنظيم داعش بعنوان: اقتلوهم حيث ثقفتموهم.
من جهة أخرى يمكن الاستدلال بوضوح أن القتل لم يكن بسبب البعد العسكري للضحايا؛ لأنهم كانوا بلباس مدني؛ ولأن التصريحات التي أدلى بها منفذو الجريمة تكشف بجلاء عن نية الإبادة ووصفهم للضحايا بأنهم إيرانيون)، و(خنازير(، ومن الدلائل الثابتة على استهداف جماعة بعينها هي: أن التنظيم المتطرف قام بعزل الضحايا على أساس طائفي، إذ استندت تلك الجرائم على التمييز الطائفي، حتى أن أحد الضحايا حاول أن يوهمهم أنه ينتمي لطائفة معينة، فأجروا له اختباراً لم يستطع اجتيازه فكان مصيره القتل، وقبل ذلك سأل الجناة ضحاياهم عن أسمائهم ومناطقهم وانتماءاتهم، ومن كان ينتمي لمذهب معين كان مصيره الذبح أو الإعدام المباشر، فضلاً عن ذلك عثر في موقع سبايكر (القصور الرئاسية) على (17 مقبرة) تضم (1236) ضحية كلهم من أبناء المذهب الشيعي.
الركن المادي
يظهر الركن المادي بوضوح في مجزرة سبايكر من خلال الأفعال الإجرامية الملموسة التي أوضحتها المقاطع التصويرية، والمقابر الجماعية، واعترافات الجناة، وشهادات الشهود، فهناك قتل متعمد لـ 2157 شاباً من مكوّن معين، وتم التمثيل بهم، ورميت جثث بعضهم في النهر، وإلحاق أذى نفسي وجسدي جسيم بهم وبعوائلهم، وفرضت عليهم ظروف معينة تستهدف الإبادة، وكل هذه الشروط توفرت في مجزرة سبايكر، فالمجزرة لا تستهدف القتل فقط، بل تهدف إلى محو متعمد لوجود جماعة معينة، علماً أن جريمة الإبادة الجماعية لا تستلزم عدداً معيناً من الضحايا.
جريمة ضد الإنسانية
جريمة إبادة الجنس لا تختلف في جوهرها عن الجرائم في حق الإنسانية سواء من حيث إسنادها إلى القواعد العرفية الدولية، أو من حيث زمن ارتكابها، والفارق الوحيد بين جريمة الإبادة والجرائم الدولية الأخرى، التي ترتكب في حق الإنسانية يتعلق بتحديد نوعية الفئات المستهدفة في هذه الجرائم، ومن ثم مطلوب حمايتها، ولقد نص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة على أن الجرائم ضد الإنسانية ترتكب ضد المدنيين عموماً، من دون النظر إلى جنسياتهم أو انتماءاتهم الاجتماعية، بينما نصت اتفاقية الإبادة الجماعية على أن هذه الجريمة ترتكب في حق جماعات قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية بنية إبادة هذه الجماعات كلياً أو جزئياً، فنية الإبادة هي معيار التفرقة بين جريمة إبادة الجنس والجرائم الأخرى في حق الإنسانية التي لا تستهدف إلى إبادة جماعات بعينها، بالرغم من استنادها إلى اعتبارات عنصرية أو اجتماعية أو دينية أو ثقافية أو سياسية.
إنصاف الضحايا
هناك فصول عديدة من المشاهد المؤلمة لهذه المجزرة التي لم تأخذ حقها من الناحية الإعلامية،وإن إنصاف ضحايا الفاجعة أقل واجب يمكن تقديمه، فالعدالة تقتضي القصاص العادل من كل الإرهابيين الذين أيدوا وشجعوا على ارتكاب تلك المجزرة التي اجتمعت فيها كل الأرواح اللئيمة والأحقاد والضغائن الشريرة، وأن من الواجب إنصاف عوائل الضحايا وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم.
المصادر
- فريق التحقيق / يونيتيد: فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من جانب داعش تنظيم داعش : تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
- محمد سليم محمد غزوي، جريمة إبادة الجنس البشري،ط2،1982
- اتفاقيات جنيف لعام 1949 : اتفاقيات جنيف /أغسطس 1949
- اتفاقية الإبادة الجماعية : اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948
(1) عبد الوهاب حومد، الإجرام الدولي، ط1، الكويت،1978، ص237.