د. عباس القريشي
في ظل الأحداث الكبرى التي طغت على المشهد العراقي في منتصف عام 2014م، وما تلاه من مخاطر جسيمة عصفت به، كانت هناك جريمة نُفِّذت بصمت، وغابت عن عناوين الصحف والنشرات الإخبارية، على الرغم من أنها كانت من أفظع ما ارتُكب في تاريخ العراق الحديث، وهي جريمة دولية مركبة ضد نزلاء سجن بادوش من الشيعة[1]، تلك أولى الصفحات السوداء التي خطّها كيان داعش الإرهابي، ومرّ عليها العالم مرور الكرام.
ففي العاشر من حزيران عام 2014م، كانت الموصل تسقط تحت هيمنة كيان داعش الإرهابي، ونظرا للانهيار الأمني المباغت، انسحبت إدارة سجن بادوش وعناصر الحماية والحرس من مبنى سجن بادوش الواقع إلى الشمال الغربي من المدينة.
تمييز طائفي منذ اللحظة الأولى
يقول ابن أحد الضحايا (ح، ع، خ): “اتصلنا بوالدي صباح يوم 10-6-2014 م فأخبرنا أن حرس السجن تركوا السجن مقفلا، وانسحبوا وبدأ السجناء السنة يتعاركون مع السجناء الشيعة، وقد سمعنا صياح السجناء صراخهم عبر الاتصال وما حدث لاحقاً مجازر”
الإعدام الجماعي خارج القانون والإنسانية
وبحسب بيان نشرته منظمة (هيومن رايتس ووتش)[2] جاء فيه: بعد اقتحام السجن من عناصر داعش الإرهابي “قام مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية باقتحام سجن بادوش يوم استيلائهم على الموصل، ثاني كبريات المدن العراقية، والواقعة على بعد 10 كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من السجن. ساق المسلحون ما يصل إلى 1500 نزيل في شاحنات، وقادوهم إلى بقعة صحراوية منعزلة على بعد كيلومترين من السجن”، وبدأ عناصر داعش الإرهابي بفصل “عدة مئات من الرجال السنة، وعدد أقل من الرجال المسيحيين، وانطلقوا بهم في الشاحنات، … ثم قاموا بسرقة [متعلقات] الشيعة وأهانوهم …، وساقوهم إلى وادٍ وأرغموهم على تشكيل طابور واحد طويل على حافته” وبدأوا يطلقون النار على الضحايا البالغ عددهم (670 ضحية ) ويلقوهم في الوادي كما أفاد الناجي (أ.س)، وجميعهم من أبناء بغداد ومحافظات الجنوب والوسط. وبعد قتلهم تم إحراق الجثث وتركها في العراء من دون دفن.
الناجي (م، أ ) الذي نجا رغم إصابته بجروح خطيرة، يروي التفاصيل المروعة قائلاً:
“بعد إطلاق النار هرب مجموعة من النزلاء ولحقت بهم السيارات والمسلحون الذين يحملون BKC وبدأوا يرمون عليهم إطلاقات نارية للقضاء عليهم ، وبعد ما صارت هذه المكان الي احنه بيه تم حرقه جميعه يعني حرقوا الأرض من كدامنا ومن ورانا يعني ما تكدر تشرد لا من كدام ولا من وره ” وأفاد أيضا بأن عناصر داعش ليتأكدوا من موتنا كانوا يمسكون خشبة فيها شعلة من نار يحركون بيها الجثة حتى يعرف هذا ميت لو بي نفس عايش ، فلمن وصل إلي فحاجاه واحد من داعش كاله هذا عليَّ بي نفس بعد ما اني انصابيت بإطلاقة بيدي انوب اطلقوا عليَّ رصاصتين بقدمي باليسره إلي هي حطمت لي العضلة مال قدمي اليسره بعدها مشوا، رجعت مجموعة ثانيه من هذولي إلي نازلين بالوادي يتأكدون تأكيداً تاماً بأن كلها انتهى أمرها، قاموا يحرقون بالجثث إلي هي الخشبة الي وصفتها الك، فهم لمن وصل يمي جعلوا الشعلة مال النار بقدمي اليمنه ، بقت النار مشتعلة بقدمي اليمنه، أني بقيت أتحمل ألمها وأوجعها بحيث حتى ما يعرف اني بي نفس، فمن شافني هيجي عبرني وكاله هذا منتهي أمر مكتول ، روح للي بصفه “
الناجي (ح. ك) الذي نجا رغم إصابته بجروح خطيرة، يروي التفاصيل المروعة قائلاً:
“احنه من عزلون سنه وشيعة عرفنا راح يكتلونا… كاله خلي السلاح على الصلي، رشاشات وبكيسيات،كال يله نفذوا العملية، نفذوا العملية بينا كتلونا كلنا، اني ويه ما انشمرت اجتي طلقة براسي، وبعدين وي ما نمت اجتي طلقه بيديه، اهنانه حسيت روحي فقدت خمس دقايق،.. وجان أكو واحد رجال جبير من ضربوه براسه والطلقة طلعت من وره راسه وكع عليَّ”
جريمة بصمت عالمي!
رغم هول الجريمة ووحشيتها، إلا أن تداولها الإعلامي كان مخجلا، ولا يتناسب مع فداحة جريمة الإبادة الجماعية، لم تُسلّط الأضواء كما يجب، ولم تُفتح تحقيقات دولية حقيقية وحتى فريق يونيتاد لم يكمل التحقيق في هذه الجريمة، ولم يُحاكم أحد من مرتكبي المجزرة أمام محكمة جنائية دولية.
هذه الجريمة ليست فقط أولى جرائم داعش بعد احتلال الموصل، بل هي واحدة من أوضح الجرائم الطائفية التي ارتُكبت بدم بارد، على أساس الهوية والانتماء، دون أدنى رحمة أو قانون.
صرخة في وجه النسيان
سجن بادوش اليوم هو أكثر من مبنى مدمر في محافظة نينوى، فهو شاهد على جريمة منسية، وعار لا يمحى من تاريخ الإرهاب، ويجب على المؤسسات المعنية تحويله إلى متحف تذكاري؛ ليكون شاهدا على أول جريمة دولية مركبة ارتكبها داعش الإرهابي، وبما أن الأوضاع السياسية والأمنية في العراق مستقرة فلا بد من إعادة فتح ملف جريمة إبادة نزلاء سجن بادوش وملاحقة المتورطين. وعلى الإعلام التعامل مع هذه الجريمة لا على أساس كونها خبرا من الماضي، بل بوصفها قضية حيّة تستحق العدالة والإنصاف والذاكرة، فلا تُقاس حضارة الأمم فقط بما تبنيه من أبراج، بل أيضاً بما تنصف به ضحاياها، وتُحيي به ذكراهم.
المصادر
[1] – ينظر تقرير فريق التحقيق (يونيتاد) ينشر نتائج حول الجرائم الدولية التي ارتكبها تنظيم داعش ضد النزلاء من الأغلبية الشيعية في سجن بادوش على الرابط الإلكتروني :- https://www.unitad.un.org/ar/news/%D9%81%D8%B1%D9%8A
[2] – ينر البيان على الرابط الإلكتروني :- https://www.hrw.org/ar/news/2014/10/30/264150