في سياق توثيق قصص الضحايا
ينشر المركز العراق لتوثيق جرائم التطرف قصة استشهاد
الخطيب الشيخ (جواد حميد إبراهيم الهلالي)(*)
التي رواها نجله الدكتور فاضل جواد حميد الهلالي.
النص:
في الشهر الخامس سنة (1988) قامت أجهزة الأمن البعثية الصدامية المجرمة بحملة شعواء لتصفية ثلة من خطباء المنبر الحسيني في مدينة النجف الأشرف، وفي مدينة الكوفة المقدسة، إذ شملت هذه الحملة الكافرة والدنيئة عددًا من الخطباء البارزين والمعروفين في هاتين المدينتين المقدستين، كان من بينهم الخطيب السيد الجليل (عزيز الياسري)، والخطيب الشيخ (محمد علي الأيرواني)، والخطيب الشيخ (هادي النويني)، وغيرهم من الخطباء البارزين (رحمهم الله جميعا)، وكان الوالد الخطيب الشيخ الشهيد (جواد حميد إبراهيم الهلالي) من بين هؤلاء الخطباء المستهدفين ضمن هذه الحملة الدنيئة والمجرمة، تجدر الإشارة هنا إلى أن أجهزة الأمن البعثية الصدامية المجرمة قد استخدمت في هذه الحملة الإجرامية أساليب ووسائل وطرق مختلفة ومتنوعة، وهي في الوقت نفسه أساليب ووسائل وطرق دنيئة وخسيسة للغاية في عملية المباشرة والقيام بتنفيذ هذه الحملة؛ لتصفية تلك الثلة الخيرة من خطباء المنبر الحسيني المقدس، ونورد في هذه السطور المتواضعة جريمة اغتيال الوالد الشهيد ضمن تلك الحملة الدنيئة.
إن الوالد الخطيب الشيخ الشهيد (جواد حميد إبراهيم الهلالي) هو أحد الخطباء المعروفين على مستوى مدينة الكوفة المقدسة بشكل خاص، فإنه (رحمه الله) كان يحيي معظم المجالس الحسينية في حسينيات هذه المدينة المقدسة، وفي بعض البيوتات الكوفية الكريمة والمعروفة، فضلا عن إحيائه للمجالس الحسينية في مدينة البصرة، لاسيما إبان شهر محرم الحرام ولسنين طويلة.
على ذلك فقد تمت دعوته وذلك بتاريخ (22/5/1988) لإحياء مجلس حسيني في حي (ميثم التمار)، وهو أحد أحياء مدينة الكوفة المقدسة، والذي كان يسمى حي (17 تموز) إبان حقبة البعث الكافر، وعلى الرغم من عدم معرفته بأولئك الأشخاص الذين دعوه إلى إحياء ذلك المجلس الحسيني، وعلى الرغم من توجسه منهم، وكما نقلت إلينا الوالدة الحاجة (أم كاظم) (رحمها الله)، إذ بدا عليهم الاستعجال والإصرار على مجيء الشيخ في سيارتهم الخاصة، وعادة ما يذهب الشيخ الوالد بنفسه إلى المجالس التي يحييها، وعلى الرغم من عدم ارتياحه لتلك الوجوه الشريرة والقذرة، إلا أنه ومن باب حرصه على إحياء المجالس الحسينية في كل زمان ومكان، وكذلك حرصه على عدم الاعتذار من أي أحد عن إحياء مجلس الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنه (رحمه الله) آثر الذهاب مع هؤلاء القتلة المجرمين وفي سيارتهم الخاصة، رغم ذلك التوجس وعدم الارتياح لهؤلاء المجرمين، بعد ذلك مضى وقت ليس بالقصير ولم يعود الشيخ الشهيد إلى المنزل حتى بعد حلول الليل، ولأوقات متأخرة منه، وعادة ما يعود الشيخ مباشرة إلى المنزل بعد انتهاء كل مجلس يحييه، ذلك أنه (رحمه الله)، ليس لديه أي ارتباطات أو اهتمامات أو لقاءات أخرى غير العبادة، والدرس الخطبائي الحسيني، وإحياء المجالس الحسينية، وقضاء متطلبات واحتياجات المنزل.
كنا أنا وأخي الأكبر الحاج (أبو زهراء) في ذلك اليوم غير موجودين في المنزل، ذلك أننا كنا في الخدمة العسكرية، وصادف أنني أتيت إلى المنزل في صباح اليوم التالي، إذ شاهدت العائلة في ذعر وقلق كبير لعدم رجوع الوالد حتى صباح اليوم التالي للمنزل، كما حضر العم الأستاذ الأديب الحاج (حبيب الهلالي) وابن العم الحاج (كاظم نجل الشيخ جعفر الهلالي)، وبينما نحن في ذلك الوقت المشحون بالقلق والذعر والحيرة والتشتت، تم إبلاغ العم الحاج (حبيب الهلالي) من قبل بعض أهالي الكوفة الكرام، بأن هناك جثة ميت مرمية في الحديقة المقابلة لمرقد الصحابي الجليل ميثم التمار، فيها ملامح الشيخ الشهيد، وكان من بين الواقفين على تلك الجثة المسجاة بعض الأخوة الكرام من كوادر حزب الدعوة، إذ شخصوا ملامح الشيخ الشهيد بشكل واضح، وبعد ذلك وبكل وقاحة وخسة ودناءة تم رفع الجثمان الطاهر من قبل أجهزة الأمن الصدامية البعثية المجرمة في مدينة الكوفة إلى المستشفى الذي كان يسمى على اسم الطاغية المقبور، وبكل دناءة تم القيام بعملية خسيسة هي عبارة عن مسرحية قذرة جرت فصولها المفبركة في هذه المستشفى، إذ تم تشريح الجثة دون إذن من أحد منا، ومن ثم تمت كتابة شهادة وفاة ملفقة، وهي عبارة عن أكاذيب رخيصة ودنيئة ومكشوفة، وذلك بتاريخ (23/5/1988)، تعزو سبب الوفاة إلى وجود خراج قيحي في الرئتين، مع أثر ذات الرئة القصبي الحاد، في الوقت الذي تم مشاهدة ومعاينة وتشخيص وبشكل واضح للغاية من قبل جميع الأهل والناس الحاضرين في المغتسل، وذلك بعد تسليم الجثة بوجود آثار الخنق للشيخ الشهيد، إذ تم مشاهدة ـ بوضوح ـ وجود أثر بلون أزرق وأحمر حول رقبته بشكل كامل (رحمه الله)، فهنيئا له ولنا هذه الشهادة المشرفة، وهو في طريقه لإحياء مجلس الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ إنه (رحمه الله) كان قد خرج من منزله سليما معافى وبكل حيوية واندفاع، وهو في نيته إحياء ذلك المجلس الحسيني، على الرغم من التوجس الذي ذكرناه.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن آخر مجلس حسيني كان قد أحياه الشيخ الشهيد في مدينة الكوفة المقدسة، وذلك قبل استشهاده بأيام قليلة، وكما يذكر لنا بعض الأخوة المؤمنين من أهالي الكوفة الكرام، إنه (رحمه الله) قد تكلم فيه عن مظلومية سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وذلك بشكل واضح ومفصل ودقيق وبدون أي خوف أو مواربة.
إننا وعلى الرغم من ألم المصاب وألم الغدر وألم الظلامة التي تعرض لها الوالد الشيخ الشهيد، إلا أننا احتسبنا الله أن يقتص من الظالمين القتلة، ذلك أن الوالد الشيخ الشهيد (رحمه الله)، كان من خصاله وسجاياه أنه كثير الصلاة والعبادة وقراءة القرآن الكريم وقراءة الأدعية المعروفة، ويروي لنا أحد الأخوة من الجيران أنهم حفظوا سور كاملة من القرآن الكريم بسبب سماعهم للشيخ وهو يرتلها، حيث كان (رحمه الله) يقرأ القرآن الكريم بصوت مسموع، ومن خصاله (رحمه الله) أنه كان بعيد كل البعد عن الخوض والتعرض للأمور السياسية أو ما شابه، إذ كان (رحمه الله) وعندما نتكلم في مثل هذه الأمور يقول لنا (بابا الحايط له آذان)، ابتعدوا عن المجاهرة بمثل هذه الأمور، ومن خصاله (رحمه الله) أنه كان قليل الاختلاط وبشكل كبير مع الآخرين، فجل وقته من المجلس الحسيني إلى البيت ومن البيت إلى المجلس الحسيني، ولم يعرف أو يذكر أنه (رحمه الله) كان لديه موقف ما من أي أحد، ولم يعرف عنه أنه تعرض لأحد أو آذى أحدًا ما، ولو بكلمة بسيطة طيلة حياته المباركة، ومن خصاله وسجاياه المباركة أنه (رحمه الله) كان يجلسنا ونحن صغار ويقيم مجلس العزاء الحسيني بحضور العائلة، لا سيما في الأيام التي لا يكون لديه ارتباط بمجلس حسيني خارج المنزل.
ومن خصاله المباركة أنه (رحمه الله) كان كثير الذهاب إلى مدينة كربلاء المقدسة، وذلك لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وأخيه أبي الفضل العباس (عليه السلام)، لا سيما في الفترة الأخيرة من عمره الشريف قبل استشهاده، إذ إننا في المنزل استغربنا ذهابه لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) مرات عديدة في الأسبوع الواحد، يبدو أنه (رحمه الله) كان يشعر بقرب اللقاء مع سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) ليكون مع أصحابه الشهداء الأوفياء، وليكون مع أصحاب أمير المؤمنين الأمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)؛ ذلك أنه ليس غريبا ولا مصادفة أن يتم اغتياله واستشهاده ويرمى جسده الطاهر بجوار مرقد الصحابي الجليل (ميثم التمار).
فهنيئا له ولنا هذه الشهادة المشرفة وهو في طريقه لإحياء مجلس الامام الحسين (عليه السلام)، وهنيئا له ولنا تلك السيرة الخطبائية الحسينية المشرفة، وهذا الذكر الطيب.
إنه الشيخ الشهيد المسجى بجوار مرقد الصحابي الجليل (ميثم التمار).
والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(*) قرار مؤسسة الشهداء بخصوص استشهاد الشيخ (جواد حميد إبراهيم الهلالي) المرقم
(3471/ 5).