banarlogo

جريمة فندق السلام في النجف الأشرف رحلة الرعب وجدلية النسيان

أ.د. حسين الزيادي

 

 

     مجزرة فندق السلام في النجف الأشرف تمثل وجهاً من وجوه الإبادة الجماعية التي ارتكبها نظام صدام ضد الشيعة خلال انتفاضة 1991، وهي من الجرائم المركبة التي يكون ركنها المادي من عدة أفعال مادية مختلفة، يصلح كل منها منفردا لقيام جريمة، فهناك الاعتقال غير القانوني، وهناك القتل والتغييب القسري، وعلى الرغم من مرور (24) سنة، تبقى هذه الجريمة جرحاً غائراً في ذاكرة العراقيين عامة والنجفيين بشكل خاص، ومثالاً صارخاً على إجرام نظام البعث، فقد استبيحت النجف والكوفة ووجهت للمدينة 38 صاروخاً من طراز أرض – أرض، و85 ألف قذيفة، وسحق النظام الانتفاضة بعنف وقسوة لا مثيل لها، مستخدماً الحرس الجمهوري وفرق الإعدام الميداني، وقد اقتُحمت المدينة من قبل قوات الحرس الجمهوري التي أُعدت مسبقا لهذا الظرف وتدربت تدريباً خاصا، وخُولت بارتكاب ما يحلو لها من جرائم، وكانت مهمة قمع الانتفاضة في النجف الأشرف التي تعد المعقل الرئيس للانتفاضة من مسؤولية طه الجزراوي واللواء صباح التكريتي، بعد أن يقوموا باستعادة محور الحلة– الكفل- ثم يتوجهون إلى النجف الأشرف، وبحسب الخطة المرسومة أن حسين كامل وهو الشخصية الأكثر دموية في نظام البعث، يتوجه إلى مدينة النجف الأشرف ليكون معهم بعد قمعه لانتفاضة كربلاء(1).

 

صلاحيات كاملة

     ما أن وصلت أخبار الانتفاضة الشعبانية إلى هرم السلطة في بغداد حتى قام بتوزيع أعضاء قيادته على المحافظات، فكلف عزت الدوري واللواء كمال التكريتي لاستعادة محافظة ميسان بعد السيطرة على مفرق الناصرية – الكوت، وكلف محمد حمزة الزبيدي لاستعادة الناصرية، وإياد فليح الراوي بالاندفاع من البصرة إلى العمارة والاستدارة مع سمير الشيخلي باتجاه محافظتي المثنى والديوانية، وخصصت لمحافظة كربلاء فرقة مدرعة بقيادة حسين كامل، أما النجف الأشرف فكانت من حصة طه الجزراوي مع اللواء صباح التكريتي اللذين كلفا باستعادة محور الحلة – الكفل- والتوجه إلى النجف الأشرف، وكان هؤلاء يحملون كل الصلاحيات، من إعدام ميداني مباشر، وتهديم مساكن واعتقال، فقد ورد في تسجيل صوتي من إحدى تلك الاجتماعات التي يوجه بها صدام أعضاء قيادته الذين توزعوا على محافظات العراق: (تبلغون المعنيين.. عضو القيادة حاكم عسكري يمتلك كل صلاحيات الحاكم، الي يطلع من الطريق يجلطوه.. والتردد يعزل.. الجبن والخيانة ما أمامهم غير القتل.. لا تنتظرون أوامر لأن انتو تره هم راح تكونون مسؤولين أمامنا..بعد ما تتحمل تره الشغلة، النوبة نكول ما ندري.. يكول مدير الشرطة ما أدري شلون شرطي مو كافين.. تسليحي مو زين المحافظة الكم لازم…واحد يطلع هي هي.. لازم تصمطوه وتصمطون كل اللي وياه.….)

     سيطرت القوات الحكومية على النجف الأشرف بالكامل ابتداءً من يوم 17 آذار بعد أن استمرت مقاومة المنتفضين في النجف الأشرف لمدة سبعة أيام، وهي أطول مدة سجلتها مدينة عراقية في مقاومتها لقوات نظام البعث التي هاجمت المدينة بكل قوتها وشراستها، وأدى ذلك إلى قتل العديد من الأبرياء الذين بقيت جثثهم في شوارع المدينة أما المدينة فقد أصبحت في حالة يرثى لها فلا ماء، ولا كهرباء، ولا طعام، ولا أمان ومصير الجميع بيد القوات التي دخلتها.

 

حظر التجوال

     تم حظر التجوال بعد أن أفرغت المدينة من أغلب ساكنيها، فكانت الشوارع مقفرة لا حركة فيها إطلاقاً، فقد سيطر الرعب والخوف على الناس، فلازم البعض بيوتهم، وخرج القسم الآخر خارج المدينة، وسويت المقابر بالأرض خشية اتخاذها ملاذا من قبل الثوار، وأخذت قوات الحرس الجمهوري الخاص تقتل أي مشتبه به من الذكور بأعمار 15-60 سنة، وبدأت الطائرات بتوجيه إنذار إلى سكان المدينة، وأمروهم بالتوجه إلى طريق كربلاء، وإخلاء المدينة من أجل أن يتم البحث عن المطلوبين من أبنائها، واستجاب بعض أبناء المدينة لهذا النداء، فخرج عدد كبير ممن بقي في المدينة إلى مختلف الاتجاهات، أما من توجه إلى طريق كربلاء فقد تعرض للقصف العشوائي من قبل مروحيات النظام، وبهذا أصبحت المدينة شبه خالية من سكانها، وفي فندق السلام أُعدم بعض الضحايا داخل الغرف، بينما أُخرج آخرون إلى ساحة الفندق، أو الشوارع المجاورة وأُطلق عليهم الرصاص، ووُجدت جثث لبعض الضحايا مقطوعة الرؤوس أو ممثل بها في محاولة لبث الرعب والخوف، وحاولت السلطات إخفاء أدلة الجريمة ومعالمها، فتم نقل الضحايا إلى أماكن بعيدة، وقد وثّقت منظمات هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية المجزرة، مشيرة إلى أنها نموذج فريد للقمع الوحشي ضد المدنيين.

 

شهادة أحد الناجين

     بدأت طائرات النظام في النجف الأشرف تجوب أجواء المدينة على مديات منخفضة تدعو الشباب للتوجه إلى فندق السلام الواقع على طريق كربلاء لكي يتم إرسالهم إلى وحداتهم العسكرية، يقول أحد الناجين من جريمة فندق السلام (المهندس صلاح الجبوري تولد 1976) أنه كان مع والده خارج الكوفة، شأنه شأن أغلب العوائل التي خرجت من المدينة، وبعد رجوعنا استوقفنا أحد الجنود، وطلب منا التوجه معه فلم نمانع؛ لأنه لا يوجد لدينا ما نخشاه فلسنا طرفاً في أي مواجهة، فتم اقتيادنا إلى أحد البيوت في حي الأنصار الذي وجدناه مملوءاً بالمعتقلين بأعمار مختلفة، وبعد ذلك تم نقلنا إلى فندق السلام، فلاحظنا وجود الآلاف من المعتقلين في ساحة الفندق، حيث توجد هذه الشجرة التي كانت صغيرة (القول للمهندس صلاح وهو يحدثني ويشير لشجرة عملاقة أمامه في ساحة الفندق)، وشمل الاعتقال الجميع بلا استثناء، حتى علماء الدين كالشيخ الغروي، والشيخ البروجردي (رحمهم الله)، تم جلبهم إلى فندق السلام قبل أن يطلق سراحهم، وفي ساحة الفندق أخذوا جميع مستمسكاتنا، ووضعوها في كيس، وعُصبت أعيننا، وتم التقسيم، إذ سُفِّر العسكريون إلى الشعبة الخامسة، أما غير المطلوبين، ومنهم أنا ووالدي فقد تم نقلنا بواسطة سيارات الحمل (اللوريات)، وكلمات السب والشتم والقذف تلاحقنا (يول انتم الشيعة تردون حكم)، لم نكن نعلم بوجهة المركبات، لكني بحكم درايتي بشوارع المدينة وطرقها كنت أشعر باتجاه المركبة التي ابتعدت في طريق ترابي ومنطقة صحراوية نائية، بعد أن انتهى الطريق المعبد التي كانت تسلكه.

     في نهاية الطريق الصحراوي توقفت المركبة، وتم إنزال شخصين أو ثلاثة من المركبة، وبعدها سماعنا أصوات إطلاقات النارية.. اتجه الجميع إلى زاوية المركبة خشية القتل فقد أصبحنا على دراية بما سيؤول إليه أمرنا… تم إنزال الجميع وبدأت عملية الرمي.. أصبت بإطلاقة غير قاتلة تحت الكتف ليغمي عليّ، وفي المساء شعرت بقطرات المطر، فقد كان ذلك في الشهر الثالث وهو نهاية شهر هطول المطر في العراق، نهضت من بين الأشلاء وأنا أجد نفسي في بركة من الدماء والجثث المتكدسة.. انتبهت.. تقدمت للأمام لم أرَ أبي فاعتقدت بقتله، ومع وقت الغروب وجدت رفقاء معي لم تنالهم الإطلاقات، توجهنا إلى أحد الخيم، كان مسكناً بدوياً رفض صاحبه إيواءنا، وله الحق في ذلك؛ لأن ذلك يعرضه للسجن والاعتقال… أعطونا الماء ونصحوني بأن لا أشرب كثيراً؛ لكني ارتويت من الماء بشكل كامل، فاشتد النزيف بقوة، حاولت أن أوقف النزيف فوضعت عليه بعض قطع القماش، وضغطت على الجرح، وقررنا أن نتفرق لنكون في مأمن، فوجودنا معاً يشكل خطراً علينا جميعاً، واستمريت في المشي فوصلت إلى المدينة.. كانت الشوارع مقفرة ومهجورة، حتى وصلت لبيت قريب لي في الكوفة استضافني وتلقيت بعض العلاج.. أوصيت أن تحضر والدتي فأخبرتني بنجاة والدي؛ فعلمت أنه حي لم يمت، وبعد أيام التحقت بالمدرسة.

 

الصحن الحيدري الشريف

     انتشرت القوات الحكومية بعد دخولها إلى المدينة في شوارعها الرئيسية، كما انتشرت في المنطقة المحيطة بالصحن الحيدري الشريف، حيث التجأت المئات من العوائل إلى الصحن الشريف؛ ظنا منها أن قدسية المكان ستمنع قوات النظام من إلحاق الأذى بهم، لكن الأوامر الحكومية جاءت باقتحام الصحن الحيدري الشريف، وإفراغه من جميع العوائل التي التجأت إليه، فوجهت المدافع صوب الباب الرئيسي للصحن المقابلة للسوق الكبير، وأطلقت قذيفة على الباب فأحرقتها، ثم تلتها قذيفة أخرى موجهة نحو الجدار الكائن بأعلى الباب الذهبية الكبيرة فألحقت أضراراً بهذا الجانب من المرقد المطهر، وبدأ بعدها القصف بالأسلحة الخفيفة إلى داخل الحرم، فأصيب شباك الحرم بطلقة واحدة، ثم تلتها عمليات تصفية واسعة لجميع الموجودين من نساء وأطفال، أما الرجال فقد ألقي القبض عليهم ولم يعلم أحد بمصيرهم.

 

اعتقال السيد المرجع الأعلى

     في 20مارس / آذار 1991 احتجزت قوات البعث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي المرجع الديني الأعلى في منزلة، عقب مداهمة مسلحة لمنزله بمدينة النجف الأشرف، وألقي القبض أيضا على سبعة أفراد من عائلته، وقيل إن جنودا عراقيين قتلوا عدداً من الناس حاولوا الدفاع عن منزل آية الله الخوئي عند مداهمته فطلب السيد إبقاء أحد السادة عند العائلة؛ لأنهم بقوا لوحدهم، فقبل الضابط المسؤول عن الاعتقال، وقال للسيد المرجع نريد القبض عليك أنت المهم، ونجلك السيد محمد تقي، وتم إبقاء السيد وابنه في فندق السلام، وفي ذلك يقول السيد محمد تقي فلما دخلت القاعة رأيت المجرم طه ياسين رمضان جالساً إلى جنب السيد الخوئي، فالتفت الجزراوي لي قائلاً: أنت شجاع تذهب إلي كربلاء خمس مرات؟، فقلت له خرجت مرة واحدة إلى الحرم الشريف (حضرة أمير المؤمنين عليه السلام) وألقيت بيان السيد الخوئي ولم أذهب إلى كربلاء المقدسة، فامتعض وبدا على وجهه الغضب، وقال لي: لسانك طويل ينبغي قصه، وبعد دقائق معدودة جاء أحد الضباط وقال: أين محمد تقي الخوئي؟ فقلت له: أنا محمد تقي الخوئي، فقال: أنت ووالدك مطلوبان إلى بغداد، فقلت له: اسمح لي بأن يأتي معنا بعض المساعدين؛ لأن السيد لا يتمكن من الحركة بدونهم، فقال لي: لا يوجد مجال فقط أنت والوالد، هذا ما كان بعد ساعة من أدائنا لصلاة المغرب والعشاء تقريباً لقد بقينا لمدة يومين في السجن، وأخذونا بعدها عند الصباح إلى صدام تحت الجبر والتهديد بإبادة مدينة النجف في حال الرفض، وفرضت على السيد الإقامة الجبرية، حتى توفي في شهر آب عام 1992، ثم بعد ذلك اغتيل نجله السيد محمد تقي في حادث سير مدبر على طريق نجف كربلاء، لتنتهي بذلك مرحلة مهمة من مراحل المرجعية الدينية.

 

موقف مؤسسة الشهداء

     أكدت مؤسسة الشهداء على لسان رئيسها الدكتور النائلي أن جريمة فندق السلام واحدة من أكبر المجازر التي خلفها حزب البعث البائد في الانتفاضة الشعبانية، وقد عثر في محافظة النجف على موقع لمقبرة جماعية تعود إلى انتفاضة 1991، تسمى موقع شهداء السلام، نسبة إلى معتقلي فندق السلام، وقد اتسم العمل في هذا الموقع بالصعوبة البالغة كونها تقع في أرض رملية مستخدمة كمقالع للرمال، ويبعد هذا الموقع 4 كم عن أقرب طريق معبد باتجاه الصحراء، وبدأ العمل في الموقع الأول من أيلول 2012، وتم رفع 45 ضحية منه، والموقع عبارة عن أربع مقابر، تعرض البعض منها لأعمال النبش العشوائي بعد سقوط النظام البائد، وسميت المقبرة بهذا الاسم لأن الأشخاص الذين تم إعدامهم ودفنهم فيها سبق وأن قامت قوات النظام وأجهزته القمعية باحتجازهم في فندق السلام تمهيداً لتصفيتهم في هذا الموقع([1])، علماً أن مقابر ضحايا الانتفاضة الشعبانية في محافظة النجف بلغت سبعة مواقع هي: الحيدرية1-2، و شهداء طريق كربلاء1-4، وموقع الكوفة، وبحر النجف، ومحطة النخيل، والميلاد الجديد(2)، ولا نستبعد أن تكون بعض تلك المواقع مكاناً لدفن محتجزي فندق السلام، فضلاً عن موقع شهداء طريق كربلاء1-4، علماً أن هناك خمسة مقابر للإبادة الجماعية غير مفتوحة في محافظة النجف الأشرف بحسب دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية/ قسم شؤون مقابر الشهداء/ شعبة التنقيب وتصنيف العظام.

 

المصادر
  1. لقاء مع المهندس صلاح الجبوري أحد الناجين من جريمة فندق السلام يوم 16-5-2025، النجف الأشرف.
  2. مؤسسة الشهداء، دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية، التقرير القانوني والفني لموقع شهداء السلام، 2012.
  3. زهراء حسون صاحب، الانتفاضة الشعبانية في النجف الأشرف، رسالة ماجستير، كلية التربية للبنات 2014,
  4. ماجد الماجد، انتفاضة الشعب العراقي 1991، دار الوفاق، بيروت،1991.
  5. الفريق نجيب الصالحي، كتاب الزلزال.
  6. جميل عودة، المقابر الجماعية في العراق، مؤسسة الشهداء , 2009.
  7. السيد جواد الخوئي، مذكرات مؤلمة لا تنسى، مدونة صدى النجف،2020
  8. عبد الله حميد العتابي، خفايا الانتفاضات والانقلابات في زمن البعث 1968-2003.

(1) عبد الله حميد العتابي، خفايا الانتفاضات والانقلابات في زمن البعث 1968-2003.

([1]) مؤسسة الشهداء، دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية، التقرير القانوني والفني لموقع شهداء السلام، 2012, ص1-2.

(2) مؤسسة الشهداء، دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية، قسم شؤون مقابر الشهداء، شعبة التنقيب وتصنيف العظام، 2021.