banarlogo

عندما يكون البُكاء جريمة يُحاسب عليها القانون

د. ثائر غالب الخيكاني

 

 

حكم حزب البعث العراق للمدة 1968–2003 بقيادة صدام حسين عبر منهج القمع والاستبداد، بالاعتماد على القوانين الاستثنائية التي شرعها لتثبيت أركان دكتاتورية السلطة؛ لأنه لا يؤمن بغير سياسة سفك الدماء والرعب والعنف والإرهاب وسلطة هذا النظام ترى أن بقاءها مرهون بتخويف الشعب؛ لذلك اعتمد الطاغية صدام الديكتاتورية كأسلوب حكم يضمن له ولزمرته الاستمرار منذ استلام السلطة بتاريخ 17 تموز 1968.

لقد استعمل ذلك النظام كل أساليب التعذيب والتخويف والإرهاب المتاحة لتثبيت أركان سلطته، ومنها القتل بدون محاكمة، والمقابر الجماعية، وقطع بعض أعضاء الجسم كاليد والأذن وقص الألسن والتعذيب الوحشي لانتزاع الاعترافات بشكل قسري التي ترتب على إثرها محاكمات صورية تصدر أحكاما قاسية أغلبها الإعدام أو السجن مدى الحياة، في محاكم خاصة أسسها النظام لتثبيت أركان سلطته في العراق.

ففي زمن حكم البعث بالعراق، لم يكن الاضطهاد يقتصر على الزنازين والسجون، بل امتد ليغزو البيوت لتكون سجوناً لذوي الضحايا، وتجرّم حتى الدموع والمشاعر، فقد كان البكاء على الضحايا جريمة، ومجرد إظهار الحزن يُعد موقفاً معادياً للنظام.

أنا أحد أبناء ضحايا القمع السياسي لنظام البعث، إذ أُعدم والدي لأنه عبّر عن رأيه السياسي، وخالف توجهات هذا الحزب وأفكاره، وهذا يعدّ خيانة عظمة للبلد من وجهة السلطة، وجريمة كبرى يعاقب عليها القانون بموجب المادة (156) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969.

التي نصت (يعاقب بالإعدام كل من ارتكب عمداً فعلاً بقصد المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها، وكان ذلك الفعل من شأنه أن يفضي إلى ذلك)، لقد استخدمت هذه المادة على نطاق واسع، كأداة لتجريم المعارضين السياسيين، وتوسع تفسيرها لتشمل حتى أبسط أشكال التعبير عن الرأي.

كان والدي موظفاً على ملاك شركة حمورابي، يعيش حياة بسيطة في منطقة النواشي، المحاذية لأهوار مدينة سوق الشيوخ إلى الجنوب من محافظة ذي قار، وفي مساء يوم 17 أيار 1989، داهم رجال الأمن دار أحد أصدقائه الذي كان يتواجد فيه أبي، واعتقل مع من كان متواجداً فيه، فضلاً عن اعتقال عائلة صاحب الدار، بتهمة الانتماء إلى حزب الدعوة الإسلامية.

وبعد أربعة أشهر من التعذيب والتحقيق، حُكم عليهم بالإعدام بموجب قرار الحكم الصادر من محكمة الثورة المنحلة بالعدد880 المؤرخ في 11/10/1989 تلك المحكمة الاستثنائية التي لم تكن تعرف العدالة، برئاسة القاضي عواد حمد البندر، وعضوية العقيد الحقوقي داود سلمان شهاب والعقيد الحقوقي طارق هادي شكر الذين كانوا أداة بيد السلطة لقمع كل صوت حر، إذ لم تستغرق جلسة المحاكمة سوى دقائق معدودة بحسب إفادة من صدر بحقهم حكم السجن المؤبد على القضية نفسها، ولم يتاح فيها للمتهمين أي فرصة حقيقية للدفاع عن نفسهم.

 وفي تمام الساعة الخامسة مساء يوم 8 تشرين الثاني 1989، نُفذ حكم الإعدام (شنقاً حتى الموت) بحق والدي ورفاقه، بحسب شهادة الوفاة المرقمة 13212 والمؤرخة في 8/11/1989محل الوفاة قسم الأحكام الطويلة في سجن (أبو غريب)، أحد أكثر السجون شهرةً في ممارسة التعذيب والانتهاكات بحق الإنسانية في العراق.

وفي مساء يوم 9 تشرين الثاني 1989 تم استدعاء شقيق والدي إلى مديرية آمن محافظة ذي قار لغرض تبليغه بإعدام والدي، وبالذهاب إلى سجن (أبو غريب) في محافظة بغداد لاستلام جثمانه الطاهر، وقد عاد في اليوم التالي بعد دفن جثمانه الطاهر، وتبين أن عناصر الأمن كانوا يراقبونه منذ الانطلاق من سجن (أبو غريب) حتى انتهاء عملية الدفن في مدينة النجف الأشرف، من دون أن يكون لنا علم بإعدام والدي حينها.

 وبعد مرور عشرة أيام وبالتحديد يوم 19 من الشهر نفسه، عندما كنتُ في المدرسة –الصف الأول متوسط- سقط خبر صاعق على حياتي، قلب كل شيء رأساً على عقب، في زمن كانت فيه الأخبار تُهرّب همساً، وكانت الدموع تُحبس بالقوة، وكان الحزن يُعدّ تمرداً، فجأة وبشكل عابر، أخبرني أحد زملائي في المدرسة أن والدي قد أُعدم.

لم أفهم في البداية، سألته مذهولاً: “من أبي؟ فأكد لي الخبر، بلا مقدمات، ودون أن يعلم خطورة ما يقول، لم أكن أعي تماماً معنى الإعدام، لكن إحساسي الغريزي أدرك أن شيئاً لا يُحتمل قد حدث، دون أن أعلم أن ذلك اليوم سيشكّل نقطة تحول في حياتي، ويزرع في داخلي أول بذور الحزن العميق، والوعي بالظلم، والفقد الذي لا يُعوّض.

حينها كنت في الثالثة عشرة من عمري، لم يكن في قلبي إلا براءة الطفولة، وجهلها بالمآسي التي يخبئها الكبار، لم أكن أعلم أنني في طريقي لسماع أقسى خبر قد يسمعه طفل في حياته، تركت المدرسة خلفي، وركضت إلى البيت، ألهث بأنفاسي، وأحمل في صدري قنبلة لا أعرف كيف أُلقيها، طرقت باب بيتنا بقوة، وحين فتحته أمي، قلت لها مباشرةً، وأنا أرتجف “أبي أُعدم يا أمي قبل عشرة أيام ولم يخبرنا عمي بذلك”، لم تتكلم أمي فقط نظرت إليّ كأن الزمن توقف، وانهارت من هول الخبر، وهكذا تبين أن عمي ذهب وحده، مكسور القلب، واستلم الجسد الطاهر، ودفنه دون أن تلقى عليه النظرة الأخيرة من أمه أو عائلته.

فيما كانت الأجهزة الأمنية تراقب بيتنا، وتمنع إقامة أي عزاء وتعتبر الحزن جريمة، والدموع خيانة. كتمنا آلامنا بصمت، وحبسنا الحزن في صدورنا، وقد أُخذ من عمي تعهد خطي في مديرية أمن ذي قار، بعدم إقامة مجلس عزاء أو إعلان الحداد، بل وحتى منع البكاء، فكانت الأبواب تُغلق والنوافذ تُسدّ، لا لشيء سوى كي لا يُسمع صوت البكاء، وكأن الحزن جريمة أخرى يُحاسب عليها النظام.

 لقد عرفت الحقيقة متأخراً، لكنها ظلت محفورة في قلبي إلى الأبد، وصار ذلك اليوم بداية رحلة من الألم، لا تنتهي.

والدي رحمه الله لم يكن فقط أباً حنوناً، بل كان رمزاً للشجاعة والموقف، وقد أُعدم ظلماً، شأنه شأن الآلاف من العراقيين الذين طالتهم آلة القمع البعثية؛ بسبب انتماءاتهم السياسية، أو رفضهم للاستبداد والحروب، أو لولائهم لعلي وأولاده (عليهم السلام).

هذه ليست مجرد قصة عن فاجعة شخصية، بل شهادة على ما عاشه آلاف العراقيين تحت بطش نظام لا يعرف الرحمة، والدي كان واحدًا من الشهداء الذين خُلّدوا بصمتهم، وبدفنهم في عتمة الخوف، لكنه حيّ في قلبي، وسيظل صوته أعلى من كل محاولات القمع.

إن ما حدث لوالدي ليس حادثة فردية، بل جزء من سياسة ممنهجة انتهجها نظام البعث لقمع كل صوت حر.