banarlogo

المقابر الجماعية في العراق إرث دموي وشواهد صامتة

أ.د. حسين الزيادي

 

 

  في ظل نظام البعث تتجسّدُ المأساةُ بأبشعِ صورها، وتتضح معالم الجريمة التي يهتز لها الضمير الإنساني، ويظهر الموتى الّذينَ لم يجدوا حتّى قبراً يُنصفُ ذكراهم، هناك بين الحُفرِ العميقةِ والترابِ المشبع بالدماء، تقفُ أمٌّ وحيدةٌ تبحثُ عن جسدِ ولدِها بين المقابر الجماعية، تلك الشواهد الصُّم، والأشلاء المكدّسةُ تحتَ ترابِ النّسيان، والصرخاتٌ التي لم يسمعها أحد، إنها صرخات طفل فقد أباه قبل أن يفقه معنى الحياة، وعويل امرأة سلب منها زوجها في، ونحيب أم ثكلى دفنت قلبها مع ولدها فما عادت تستشعر معنى الحياة.

  تُعرف المقابر الجماعية على أنها الأرض أو المكان الذي يضم رفات أكثر من ضحية تم دفنها أو إخفاؤهم على نحو ثابت من دون اتباع الأحكام الشرعية والقيم الإنسانية، وبطريقه يكون القصد منها إخفاء معالم الجريمة، وتتباين أعداد المقابر الجماعية بين محافظات العراق، إلا أن هذا التباين يعطي صورة مظللة، إذ إن أغلب ضحايا المقابر الجماعية ألقي القبض عليهم في محافظات غير التي دفنوا فيها، وقد مرت المقابر الجماعية في العراق بمراحل زمنية متعددة، بدأت بعد تسنم البعث للسلطة في العراق، ولغايه زوال سلطته عام 2003، وبعد هذا التاريخ كانت المقابر الجماعية من نصيب التنظيمات المتطرفة بعد عام 2003، والملاحظ أن تلك المقابر نالت طوائف وقوميات بعينها اعتقد نظام البعث أنها تشكل خطراً على سلطته، في حين شُملت هذه الطوائف بسياسة التكفير من قبل التنظيمات الإرهابية المتطرفة:

1-: المقابر الجماعية عام 1963: مع هذا التاريخ بدأت مواجع العراقيين وسط أجواء ملبدة بالعنف والإجرام، ففي الثامن عشر من تشرين الثاني لعام 1963 جرى انقلاب عبد السلام عارف لإقصاء حكم حزب البعث، وتم تنفيذ خطة الانقلاب بإصدار بيان بإعفاء أحمد حسن البكر من منصبه، وإقصاء وزرائه، وهذه الأحداث كانت سبباً في حدوث مقابر جماعية تم العثور عليها في محافظتي بغداد والسليمانية، وهما مقبرتي الباوية وخلكان على التوالي.

 قد بلغ عدد المقابر الجماعية التي خلفها نظام البعث للمدة 1979-2003 نحو 154 مقبرة، وبواقع 75 موقعًا، وكان مجموع عدد الرفات المرفوعة من تلك المقابر نحو (4265) ضحية، يذكر أن المقابر افتتحت خلال مدة زمنية امتدت من عام 2008م إلى عام 2021.

2-المقابر الجماعية عام 1983م:

وفي عام 1983 تعرض الأكراد البرزانيون لحملة إبادة جماعية فرضتها عليهم سلطة البعث التي حاولت طمس هويتهم، ولم يسلم من جورها طفل أو امرأة أو شيخ طاعن بالسن، إذ قامت القوات التابعة لنظام البعث البائد بتطويق المناطق السكنية واعتقال حوالي 8000 من الذكور، عدا من تقل أعمارهم عن 15 سنة، وبعد سقوط نظام في التاسع من نيسان لعام 2003  تم العثور على وثائق تتحدث عن أن 2225 شخصًا أقلتهم سيارات كبيرة إلى صحراء المثنى، وتحديدا في منطقة بصية، وتم تنفيذ حكم الإعدام بحقهم في نهاية آب 1983، وبعد دفنهم تم رش المقابر بالماء بهدف تسوية المقابر من جديد مع الأرض.

وتم العثور على مقبرة جماعية واحدة للأكراد البرزانيين في محافظة المثنى، وهي مقبرة بصية – العفايف، وقد بدأت أعمال البحث والتنقيب في الموقع من تاريخ 21 تشرين الثاني 2013 ولغاية 23 تشرين الثاني 2013، والمقبرة تقع في أرض صحراوية جافة تغطيها الكثبان الرملية المتحركة، وبعد أعمال الحفر والتنقيب تم رفع 91 ضحية تعود إلى الأكراد وبالتحديد من عشيرة البرزانيين الأكراد.

3- المقابر الجماعية للمدة 1987-1988: بلغ عدد المقابر إبان هذه المدة ستون مقبرة، وبواقع خمس عشرة موقعًا تعود للمرحلة الممتدة من عام 1987 إلى عام 1988، وعدد الرفات المرفوعة من تلك المقابر بلغ نحو 2254 ضحية، وافتتحت جميع هذه المقابر خلال المدة الزمنية المحصورة من 2009 إلى عام 2019، حدثت في هذه المدة حملات الأنفال التي امتدت لثماني مراحل تم تنفيذها من قبل قوات الفيلقين الأول والخامس في كركوك وأربيل مع قوات من الحرس الجمهوري والجيش الشعبي وأفواج الدفاع الوطني التي شكلها نظام البعث آنذاك.

4- المقابر الجماعية عقب عام 1991: في هذا التاريخ وتحديداً بعد الانتفاضة الشعبانية تحول القتل إلى هستيريا، وانهارت كل المبادئ الإنسانية، فعاشت العوائل العراقية فصولاً من الرعب والإرهاب، عندما تحول النظام إلى كائن متعطش للدماء، يقتل كل من يشك بولائه، لا بدافع البقاء، بل بدافع الجنون وخيبة الهزيمة، تضم هذه المدة عدداً كبيراً من المقابر الجماعية التي خلفها نظام البعث، إذ بلغ عدد المقابر إحدى وتسعين مقبرة، وبواقع سبعة وخمسين موقعًا تعود لعام 1991م، وكان عدد الرفات المرفوعة من تلك المقابر نحو 1909 ضحية، وافتتحت جميع هذه المقابر في المدة الزمنية المحصورة من 2008 إلى عام 2021،  وأكبرها مقبرة المحاويل – تل أبو حجل في محافظة بابل، إذ بلغ عدد الرفات 796 وتم فتحها عام 2010.

 والجدير ذكره أن نظام البعث أصيب بحالة هستيرية بعد هزيمته النكراء عام 1991 وأعقب ذلك بانتفاضة شعبية كبرى في شعبان عام 1991، فانتشرت القيادات البعثية على كل المحافظات العراقية بأوامر من هرم السلطة، وهؤلاء يحملون كافة الصلاحيات، من إعدام وضرب قرى، وتهديم مساكن، وهؤلاء خولوا القيادات الأدنى بكل صلاحياتهم، فكان شعارهم: (اقتل ثم اقتل ..لا تسأل عن الاسم.. لا تنظر في العين، لا تحقق في الأمر) ، وهذا المنطق يفسر لنا حملات الإعدام الواسعة والقسوة التي امتازت بها قيادات البعث، إذ صدرت قرارات من القيادات البعثية بالقبض على كل من شارك في الانتفاضة، وفي مواقع المدن قامت القيادات بإعطاء الأوامر بإعدام مئات الشباب المشاركين وغير المشاركين دفنهم في مواقع وجود تلك الوحدات من دون إجراء تحقيقات أو محاكمة، ومن دون أن يعرف العديد من الشباب بالاتهامات الموجهة لهم، وكان الشباب يتكدسون بشكل كبير في أماكن سيطرة الوحدات العسكرية، وبالنظر لكثرة عدد الذين تم تنفيذ حكم الإعدام بهم صار الأمر إلى دفنهم بشكل جماعي في مقابر جماعية، وآخر المقابر هي تلك التي عثر عليها في منطقة سيد ذهب في الناصرية التي ضمت رفات 700 مواطن من محافظة ذي قار، يرجح أنهم دفنوا أحياء، إذ لا توجد آثار طلقات نارية عليهم، وقد عثر على المقبرة في موقع بناء شقق سكنية قيد الانشاء.

5- المقابر الجماعية بعد عام 2003: امتد النهج الدموي للبعث بعد عام 2003 لتسير عليه التنظيمات الإرهابية بمختلف مسمياتها، وظهر ذلك جلياً بصورة مقابر جماعية ضمت الآلاف من أبناء الشعب العراقي أطفالاً ونساءً ورجالاً، وقد ارتكبت عصابات داعش الإرهابية انتهاكات جسيمة خلال مدة دخول هذا التنظيم إلى بعض محافظات العراق، إذ بلغ عدد مقابر الإبادة الجماعية المفتوحة التي خلفها هذا التنظيم المتطرف إحدى وخمسين مقبرة، وافتتحت جميعها خلال المدة الزمنية الممتدة من 2015 إلى عام 2021، وأكبر تلك المقابر هي في موقع معسكر سبايكر، إذ بلغ عدد  الضحايا 1236 تم استخراجهم من 17 مقبرة افتتحت خلال المدة 2015-2017.

فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة (يونيتاد)

وبين 2017 و2023 دعم فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من جانب داعش (يونيتاد) دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية، ودائرة الطب العدلي، التابعتين للحكومة العراقية، والفريق الأممي الذي تم إنشاؤه بموجب قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في 2017 ساعد السلطات العراقية على استخراج الرفات البشرية لمساعدة الأهالي في التعرف على هويات ذويهم، وكذلك في توفير أدلة جنائية مفيدة لإدانة مرتكبي جرائم القتل، وساعد الفريق العراق في استخراج 1237 جثة من 14 مقبرة لضحايا مجزرة معسكر سبايكر،  وفي 28 أيار 2024، أعلنت السلطات العراقية ويونيتاد نبش حفرة علو عنتر، وهي مقبرة جماعية في قضاء تلعفر، تحتوي على رفات أكثر من ألف شخص، ونظراً لكونها حفرة جيولوجية عميقة، كانت أعمال التنقيب في ذلك الموقع الأكثر تحدياً وصعوبةً مقارنة بأعمال التنقيب التي اضطلعت بها دائرة حماية وشؤون المقابر الجماعية ودائرة الطب العدلي وفريق التحقيق (يونيتاد) على الإطلاق، ويشير التحليل الأولي إلى أن هذا الموقع المعقّد، وهو عبارة عن حفرة عميقة، يحتوي على رفات ضحايا تنظيم داعش من الطائفتين الأيزيدية والشيعية.

بحسب اتفاقيات جنيف فقد تم تصنيف الأعمال التي تُصنف جرائمَ حرب، ومن بينها المجازر والمقابر الجماعية، ويلاحق فاعلوها ويحاكمون سواء كانوا مدنيين أم عسكريين أم حتى رؤساء دول، وقد صادق العراق على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والعقاب عليها في عام 1959، لكن هذا الأمر لم يكن رادعاً لنظام البعث والتنظيمات المتطرفة التي أوغلت في دماء العراقيين، إذ تعد المقابر الجماعية من أوضح صور الإبادة الجماعية التي ترتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، التي تهدف إلى قتل أعضاء من جماعة أو إلحاق الأذى الجسدي أو الروحي بأعضاء جماعة أو إخضاع جماعة عمداً لظروف معيشية بقصد تدميرهم كلياً أو جزئياً.

وفي اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها المؤرخة في الـ11 من ديسمبر 1946، أعلن أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها ويدينها العالم المتمدن، وقد ألحقت في جميع عصور التاريخ خسائر جسيمة بالإنسانية.

وقد أوردت المادة الخامسة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ١٩٩٨م جريمة الإبادة الجماعية في المرتبة الأولى والجرائم ضد الإنسانية في المرتبة الثانية من الجرائم الدولية الجنائية، وأوردت المادة السادسة تعريفاً لهذه الجريمة: أي فعل من الأفعال يرتكب بقصد إهلاك جماعة دينية أو عرقية أو أثنية أو قومية، بصفتها هذه إهلاكاً كلياً أو جزئياً، وهذا التعريف ذاته هو الذي أوردته المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية المنعقدة عام 1948.

المصادر

  1. زياد ربيع، جرائم الإبادة الجماعية، مجلة دراسات دولية، العدد 59، 2014
  2. عبد المنصور بارزاني، الإبادة الجماعية، البارزانييون في معسكر قوشتبة التجميعي، 1983
  3. مؤسسة الشهداء، دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية، قسم شؤون مقابر الشهداء
  4. علي لفتة سعيد، أعياد عبد الرضا، التوزيع الجغرافي لمناطق الإبادة الجماعية في العراق – دراسة في جغرافية الجريمة، مؤتمر الإبادة الجماعية والعلوم الإنسانية، جامعة بغداد- كلية الآداب، 2015
  5. الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة، الدائرة الإعلامية، المقابر الجماعية في العراق، الطبعة الأولى،2011.