banarlogo

المقابر الجماعية في حقبة نظام البعث في العراق

د. فاطمة حمدان عبادي

جامعة الكوفة/كلية الآداب

 

 

تعد المقابر الجماعية في العراق من أبرز الشواهد على انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة التي ارتكبت في ظل نظام البعث خلال المدة 1968–2003، وهي لا تمثل فقط جرائم قتل جماعي واختفاء قسري، بل تكشف سياسة منهجية للقمع والإبادة اعتمدها النظام ضد كل من شكّل تهديداً فعلياً أو متخيلاً لسلطته. لقد استهدفت هذه الجرائم فئات متعددة من مكونات الشعب العراقي، من المكونات العرقية والدينية إلى المعارضين السياسيين، من دون تمييز في السن أو الجنس.

تميزت هذه المرحلة التاريخية السوداء باستخدام العنف الممنهج لإخفاء آثار الجرائم، إذ دفنت آلاف الجثث في مواقع سرية، بعد إعدام أصحابها بشكل جماعي، أو دفنهم وهم أحياء في بعض الحالات. كما لجأ النظام إلى طمس الأدلة والتكتم على مواقع هذه المقابر باستخدام الأجهزة الأمنية والإعلامية، بما يظهر الطابع المنظم لهذه الجرائم.

اتبعت السلطات البعثية وسائل متعددة لتنفيذ المجازر، من بينها الإعدام الجماعي باستخدام الأسلحة النارية، والغازات السامة، والأسلحة الكيميائية، إلى جانب وسائل تعذيب وحشية تنتهي غالباً بالقتل. ومن أبرز المحطات التي تجسدت فيها هذه السياسات: حملة الأنفال عام 1988، التي راح ضحيتها ما يقارب 182 ألف كردي، دُفن العديد منهم في مقابر جماعية جنوب البلاد وغربها، فضلاً عن المقابر الجماعية في مدن الوسط والجنوب بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة.

لم تكن المقابر الجماعية نتيجة لأحداث عرضية، بل جاءت نتيجة لتراكم عوامل سياسية وعسكرية وطائفية؛ فقد ارتبط ظهورها بالحروب التي خاضها النظام مثل الحرب العراقية الإيرانية، وغزو الكويت، وقمع الانتفاضات الشعبية عام 1991، إلى جانب سياسات التصفية العرقية والدينية، خصوصاً ضد الشيعة والأكراد.

اعتمدت الأجهزة الأمنية على آليات متعددة لتنفيذ هذه الجرائم، شملت الاختطاف السري، والاعتقالات الفردية والجماعية، إضافة إلى ما سُمي بـ “تطهير السجون”، إذ كانت تُعد قوائم دورية بأسماء السجناء الذين يُعدمون لتقليل عدد المحتجزين. وبرزت حملات التهجير القسري والاعتقالات الواسعة، ولا سيما ضد من أُطلق عليهم “المسفرين”، الذين استخدم بعضهم في تجارب كيميائية قبل تصفيتهم ودفنهم في مقابر جماعية.

وقد طالت هذه الانتهاكات حتى الأطفال والنساء والمسنين، ولم تقتصر على منطقة واحدة، بل امتدت لتشمل معظم مناطق العراق، خاصة في الوسط والجنوب. إن توثيق هذه الجرائم يشكّل خطوة ضرورية في سبيل العدالة الانتقالية، ويكشف عن جانب مظلم من التاريخ السياسي للعراق الحديث تحت سلطة حزب البعث.

تمثل المقابر الجماعية شاهداً مادياً على وحشية السلطة القمعية البعثية، وأداة لفهم طبيعة الحكم الاستبدادي الذي ساد العراق طوال العقود الأخيرة من القرن العشرين.

شهد العراق خلال حكم نظام البعث اكتشاف عدد كبير من المقابر الجماعية، منها: مقبرة السلمان في المثنى؛ إذ دُفن 130 من النساء والأطفال أحياء، ومقبرة طوبزاوة في كركوك التي ضمّت 185 رفاتاً تعود لعامي 1988 و1991. وتم العثور على مقبرة سهل عكازة في الأنبار بـ 812 ضحية، ومقبرة البرجسية في البصرة بأكثر من 400 رفات. وبرزت أيضاً مقابر مثل المدينة، الزركة، وسيد ذهب، وإمام بكر، وجميعها ضمت ضحايا من الشيعة. إضافة إلى مقابر في النجف الأشرف، وكربلاء المقدسة، وذي قار، بابل، وواسط، وميسان، وغالبيتها تعود إلى حملات القمع في عام 1991، وتظهر حجم الجرائم المرتكبة بحق المدنيين من مختلف الأعمار والطوائف.

وفي الختام، تمثل المقابر الجماعية في العراق واحدة من أبشع الشواهد على استبداد نظام البعث، وتجسيداً مأساوياً لفشل السلطة في احترام الإنسان وحقوقه الأساسية. لقد تحولت الدولة في تلك الحقبة من كيان راعٍ لمواطنيه إلى آلة قمع لا تتردد في استخدام العنف الهمجي لإسكات أي صوت معارض أو حتى مختلف. كشخص يتأمل في هذا التاريخ الأليم، لا يمكنني سوى الشعور بالغضب والأسى حيال الأرواح التي أُزهقت بغير ذنب، والعدالة التي تأخرت كثيراً. إن هذا الإرث الدموي لا يجب أن يُنسى، بل ينبغي أن يكون درساً حياً يُستقى منه في بناء مستقبل يستند إلى العدالة والمساءلة واحترام الكرامة الإنسانية، حتى لا تتكرر مثل هذه المآسي في تاريخ العراق أو أي مكان آخر.

المصادر المستخدمة:

 

*مؤسسة الشهداء، دائرة شؤون وحماية المقابر الجماعية، قسم شؤون مقابر الشهداء، شعبة التنقيب وتصنيف العظام، 2021.

*صالح الخاقاني، حزب البعث تاريخ العنف والإرهاب، (د. م: د. مط، د. ت).

*طه بابان، القبور الجماعية ومآسيها في العراق، (السليمانية: مطبعة كه كون، 2013).

*عارف قورباني، المسائلة والعدالة… ناج من المقابر الجماعية، ترجمة: بكر درويش، (د.م: دار الوارث للطباعة والنشرة، 2024).

*عباس عطية القريشي، المقابر الجماعية تحت التراب، (د. م: دار الكفيل للطباعة والنشر، 2022).

*جميل عودة، المقابر الجماعية في العراق، (العراق: مؤسسة الشهداء، 2009).

*رائد عبيس، دليل المقابر الجماعية في العراق (مرحلة حكم البعث)، (د. م: دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع، 2023).

*قاسم عبد علي عذيب، التحليل الجيوسياسي لمقابر الإبادة الجماعية في العراق للفترة من 1979-2017، مجلة آداب البصرة، العدد 99، 2022.