banarlogo

ذاكرة الدم المطمورة وصوت الضحايا الذي لا يدفن

الأستاذ سعد سلطان حسين

 

في يوم المقابر الجماعية ١٦-٥ نستذكر أنه في كل شبر من أرض العراق، ثمة شهقة مختنقة تحت التراب، ونداء لمن دفن حياً في عتمة القبور الجماعية، لسنا اليوم في موضع السرد لأرقام صامتة، بل محاولة للإنصات إلى صرخة الذين اقتيدوا إلى الموت من دون ذنب سوى أنهم ولدوا في المكان الخطأ، أو قال قاتلهم إنهم انتموا إلى القومية أو الطائفة أو المجموعة الخطأ من وجهة نظره في زمنٍ أُخضِع فيه القانون لسلطة الرعب.

فالمقبرة الجماعية ليست مجرد حفرة يوارى فيها الجسد، بل هي طمس متعمد للحقيقة، ودفن للعدالة مع الضحايا. إنها المكان الذي تُجمع فيه رفات بشرية متعددة، من دون طقوس، من دون أسماء، من دون قبور أو حتى شواهد. وغالباً ما يكون الضحايا من مناطق غير التي دفنوا فيها، في مسعى شيطاني لقطع أثرهم عن ذويهم.
حُوصرت القرى الكردية، وسُحبت أرواح الآلاف من الذكور والنساء والأطفال في حملات الإبادة الجماعية المتتالية، رُحّلوا بصمت إلى الصحارى في صحارى الحضر، السماوة، النجف؛ لتُدفن أجسادهم تحت الرمال.
وفي الجنوب والفرات الأوسط، وبعد أن فقد النظام توازنه بعد الهزيمة في حرب الخليج، صب غضبه على شباب الجنوب والوسط المنتفضين، وأُعطيت الأوامر الشفوية بالإعدام خارج نطاق القانون والقضاء، فكان الدفن بقبور جماعية من دون تحقيق.

تنظيف السجون المصطلح الذي استخدمه النظام ليوحي للشعب المظلوم من خلاله أن قراراً بالعفو قد صدر، لكن الحقيقة أنه مرادف لقرارات إعدام جماعية صامتة تسبق قرارات العفو. في سجن (أبو غريب) ومعتقل الرضوانية، حيث يتكدس المعتقلون السياسيون ومعتقلو الرأي، لتصدر الأوامر بـتصفيتهم، جردوا من هويتهم، وأُخذوا ليلاً نحو ساحات الإعدام لتكون نهايتهم في قبور جماعية في الكرخ وسهل عكاز في الأنبار ومواقع آخر، لتتحول الأماكن إلى محرقة بشرية مغلقة.
بعد عام 2003، وعلى أنقاض دكتاتورية سقطت، برزت التنظيمات المتطرفة كوريث شرعي لثقافة الإبادة، ارتكبت عصابات القاعدة ومن بعدها أيتام البعث وداعش الإرهاب جرائم تقشعر لها الأبدان، مجزرة معسكر سبايكر، حيث استُخرجت رفات المئات، فيما بقي مصير من تبقى من 2157 شاباً شيعياً مجهولاً، ومجزرة نزلاء سجن بادوش الشيعة التي راح ضحيتها أكثر من 600 ضحية، وأخرى لتركمان الشيعة في الموصل، وعشرات المقابر الجماعية الايزيدية، ومقبرة حفرة الخسفة الجماعية التي احتضنت رفات شهداء الموصل على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم، وفي الأنبار بين مدة وأخرى تنكشف جريمة لهذا التنظيم الأسود.
المقابر الجماعية في العراق ليست إلا شواهد لجرائم حرب، وأخرى لإبادة جماعية أو ضد الإنسانية، وهذه الأرض لا تزال تكشف في كل يوم مزيداً من المقابر، وكأن الذاكرة لم تنتهِ بعد من سرد أوجاعها. فالمقابر الجماعية ليست من الماضي، بل من الحاضر الذي لم يتحرر بعد. وكل رفات أو بقايا رفات هي حجة ضد النسيان، وكل قبر مجهول هو قضية مؤجلة تنتظر العدالة.