banarlogo

عقوبة قطع اليد في ظل نظام البعث

أ.د. حسين الزيادي

 

 

   إن الإطار الدستوري الذي اتَّكَأ عليه نظام البعث في  إصدار القوانين والقرارات التي لها قوة القانون، هي المادة الثانية والأربعون من دستور 1970م، وهذه المادة أعطت صلاحيات واسعة لمجلس قيادة الثورة، ومنها التشريع الصادر من قبل نظام البعث الذي يقضي بقطع اليد، وهي عقوبات غير إنسانية تتنافى مع المشروعية القانونية والحقوقية؛ لأن العقوبات شرعت لصلاح المجتمع، وتقويم السلوك الإنساني، ولیست من أجل التشهير بالمجرمين أو تعذيبهم والقسوة علیهم؛ لأنها بهذا تخالف المبادئ الأساسية للقانون الدولي، ومنها التعليق العام رقم 20 للجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية في الأمم المتحدة لعام 1992 وضمن المادة (7)، والخاصة بمنع العقوبات غير الإنسانية، والهدف هو صون كرامة الفرد، وسلامته البدنية والعقلية معاً، ومن واجب الدولة أن توفر لكل شخص، عن طريق ما قد يلزم من التدابير التشريعية والتدابير الأخرى، الحماية من الأفعال التي تحظرها المادة 7، سواء ألحقها به أشخاص يعملون بصفتهم الرسمية، أو خارج نطاق صفتهم الرسمية، أو بصفتهم الشخصية. والحظر الوارد في المادة 7 تكمله المقتضيات الإيجابية الواردة في الفقرة 1 من المادة (10) من العهد التي تنص على أن : يعامل جميع الأشخاص المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية تحترم الكرامة المتأصلة في شخص الإنسان.

 

شروط العقوبة

   يعد تحقيق العدالة من أهم الأغراض التى ينبغي أن يستهدفها العقاب، وتحقيق العدالة كغرض من أغراض العقوبة يتطلب مراعاة أمور عدة، أهمها عدالة العقوبة أي أن تكون هناك ضرورة لتقريرها. فحيث يمكن حماية المصلحة الاجتماعية المراد حمايتها بوسائل أخرى غير العقوبة الجنائية، يكون التجاء المشرع إلى العقاب الجنائي تعسفا في استعمال حق العقاب ومجافاة لما تقتضيه العدالة، وهناك عدالة العقوبة، أي ضرورة تناسب إيلامها مع جسامة الجريمة التى تتقرر من أجلها ومراعاة عدالة العقوبة بهذا المعنى يتطلب التنويع في العقوبات، وجعلها بين حدين ومنح القاضي سلطة تقديرية ليتمكن من تفريد العقوبة، ومن أهم شروط العقوبة هو احترام الكرامة البشرية، أي ينبغي أن تكون العقوبة إنسانية، لا تؤدي إلى امتهان كرامة المحكوم عليه بها أو إهدار أدميته، وعلى المشرع أن يراعي ذلك عند اختيار العقوبات التي يقررها.

   وتؤكد المواثيق الدولية على ضرورة الابتعاد عن كافة العقوبات المنافية للكرامة الإنسانية. فالمادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن هيئة الأمم المتحدة في سنة 1948 تحظر توقيع مثل هذه العقوبات بنصها على أنه “لا يجوز إخضاع شخص للتعذيب، أو لعقوبات، أو معاملة قاسية، أو غير إنسانية، أو مهينة”.

 

شهادات حية

   حسن حسين حسن هو أحد التجار الذين تعرضوا لعقوبة قطع اليد اليمنى من الرسغ  بحسب قرار الحكم  المرفق ربطاً بتاريخ 11/01/1995، الصادر من المحكمة الخاصة في مديرية الأمن العامة برئاسة عميد الأمن الحقوقي فوزي محيي، وعضوية عميد الأمن سعد فاضل، وعميد الأمن حامد سعد عيدان،  يتحدث حسن عن وقائع الاعتقال والمحاكمة فيقول: إنه كان يمتلك محلاً لبيع السجائر والمواد الغذائية، في منطقة الشورجة في بغداد، وفي إحدى المناسبات العائلية حيث مناسبة زفاف ابن أخي تعرضت للاعتقال، وأودعنا مع ثمانية آخرين في سجن (أبو غريب) (قسم الخاصة) لمدة من الزمن، وبعد أن تم دفع الأموال من قبل أهلنا، تم نقلنا إلى غرف أخرى في السجن نفسه، وعرفنا فيما بعد أن النظام  كان يعتبرنا مسؤولين عن رفع أسعار الدولار في السوق، وهي تهمة كيدية لا أساس لها من الصحة، وصدر القرار بقطع أيدينا من الرسغ بعد عملية تحقيق صورية، ومن قبح الجريمة أننا طُولبنا بدفع عملية بتر أيدينا، كما أنهم طالبونا بدفع أجور دفن الكف، واعتبرت الجريمة مخلة بالشرف ودونت في هوية الأحوال المدنية وشهادة الجنسية العراقية تنفيذا لقرار مجلس قيادة الثورة المرقم 117 في 25/08/1994، كما تمت عملية الوشم بحقنا استناداً إلى القرار 109 الصادر من مجلس قيادة الثورة المنحل في 18/08/1994 والذي ينص على عمل وشم بين الحاجبين لكل من قطعت يداه (علامة ضرب يكون طول كل خط من خطيها المتقاطعين سنتمتراً واحداً)، كما منع الذين قطعت أيديهم من السفر؛ تحسباً لبيان السياسات الإجرامية للنظام، وفضح انتهاكاته لحقوق الإنسان، وكما يتضح من كتاب مديرية الأمن العامة المرفق ربطاً، أما عملية الوشم فالهدف منها تفرقتهم عن الذين قُطعت أيديهم في الحروب العبثية للنظام.

 

مخالفات دستورية

   على الرغم من أن الدستور المؤقت لعام 1970 أكد ضمان المحاكمة العادلة، إلا إن النظام استخدم الصلاحيات الاستثنائية لتجاوز النظام القضائي التقليدي، فالإطار الدستوري الذي اتَّكَأ عليه نظام البعث في إنشاء المحاكم الخاصة هو المادة الثانية والأربعون من دستور 1970م، وقد تضمنت المادة (20) من دستور 1970 المؤقت حق المتهم في الحصول على محاكمة عادلة، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية، وأن حق الدفاع مقدس في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة، وتكون جلسات المحاكم علنية، وعلى الرغم من ذلك أنشأ النظام البعثي محاكم خاصة، ومنها محاكم الداخلية والدفاع، ومحكمة المخابرات والأمن العامة، فضلاً عن محكمة الثورة سيئة الصيت، وهذه المحاكم لم تلتزم بأدنى المعايير القضائية العادلة، فأصدرت أحكاماً تعسفية من دون مراعاة حقّ الدفاع، وكثير من المحاكم الخاصة ترأسها أناس لا علاقة لهم بالقانون، فضلاً عن كونهم من أركان السلطة الحاكمة، وغير مؤهلين لإدارة المحكمة، كما هو الحال في قضية قطع الأيدي محل البحث.

   توسعت اختصاصات هذه المحاكم لتشمل القضايا السياسية، والأمنية، والاقتصادية من دون تمييز بين القضايا المدنية والعسكرية، ما جعلها فاقدة لهوية الاختصاص الوظيفي: وهي مجموعة القواعد القانونية التي تبين النزاعات التي يفصل فيها القضاء، وأن تلك المحاكم فاقدة للاختصاص النوعي، وهي مجموعة القواعد القانونية التي تعين الجهة القضائية التي تنظر الدعوى؛ إذ إن كل محكمة تختص بنظر نوع معين من الدعاوى بنص القانون، فالاختصاص النوعي مستبطن في الاختصاص الوظيفي، وأن عمل هذه المحاكم يتداخل مع القضاء الجنائي والقضاء الاعتيادي؛ لأن الأخير لم تكن له أي سلطة على الأحكام الصادرة عن المحاكم الخاصة، بل إن المحاكم الخاصة لها صلاحية سحب القضايا من القضاء الاعتيادي.

 

مخالفات للقوانين الدولية

   إن إجراءات المحاكمة التي قام بها نظام البعث في مسألة قطع اليد من حيث الاعتقال وظروف الاحتجاز وضمانات المحاكمة ونوع العقوبة وتناسبها؛ تُعد مُخالفة صريحة للعهود والمواثيق الدولية، فعلى سبيل المثال نصت المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على: (أن الناس جميعا سواء أمام القضاء، ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه، أو في حقوقه، والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف، وعلني، من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون)، أما المادة 7 فنصت على : عدم جواز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة، وتتعهد كل دولة طرف في هذا العهد: بأن تكفل توفير سبيل فعال للتظلم لأي شخص انتهكت حقوقه أو حرياته المعترف بها في هذا العهد، حتى لو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرفون بصفتهم الرسمية، في حين نصت المادة العاشرة على أن يعامل جميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية، ويجب أن تحترم الكرامة الأصيلة في الشخص الإنساني.

   أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام (1948) في المادة العاشرة منه فقد نص على : (لكل إنسان الحق في محاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مستقلة ومحايدة)، فالمحاكم التي أنشأها نظام البعث كانت بعيدة كل البعد عن الاستقلالية والحيادية، فضلاً عن عدم امتلاكها لأدنى مراتب الشرعية؛ لأنها تتكون من أفراد غير مؤهلين من الناحية القانونية، فضلاً عن كون أعضائها من رجالات السلطة، وكل ما تقدم ينافي التزامات العراق بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أكد استقلالية القضاء والحق في الحياة، والحرية، والأمن الشخصي، والخصوصية، وحرية التعبير، والمحاكمة العادلة، والذي صادق عليه العراق عام 1971.

   وفيما يتعلق باستقلالية المحكمة فقد نصت دیباجة ميثاق الأمم المتحدة على (ان استقلال السلطات القضائية تبین الأحوال التي یمكن في ظلھا تحقیق العدالة، وأن تؤكد من جدید إیمانھا بالحقوق الأساسية للإنسان، وینص النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولیة على أن ھیأة المحكمة تتكون من قضاة مستقلين)، وتنص الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على أنه (لكل فرد لدى الفصل في حقوقه، والتزاماته المدنية؛ حق في محاكمة عادلة من قبل محكمة مستقلة ومحایدة تقرر حقوق الفرد، وواجباته، وتفصل في أية تھمة توجه إلیه)

   وتأسيساً على تقدم فإن إجراءات نظام البعث الخاصة بإنشاء المحاكم الخاصة يعد مخالفة صريحة للمادة (14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تنص على حق كل فرد في محاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مختصة ومستقلة ونزيهة، وعلى أن حق الدفاع مكفول في جميع مراحل الإجراءات القضائية.