banarlogo

القمع السياسي في العراق: مجزرة الدجيل أنموذجاً لسياسات البطش البعثي

د. فاطمة حمدان عبادي

جامعة الكوفة / كلية الآداب

تعد مجزرة الدجيل واحدة من أبرز الأمثلة على القمع الوحشي التي مارسها صدام حسين ضد معارضيه، ففي هذه البلدة العراقية الواقعة إلى شمال بغداد، شهدت مجزرة مأساوية أظهرت وحشية النظام السابق، بعد أن تعرض الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى محاولة اغتيال فاشلة فيها في 8 تموز 1982، تلك المجزرة التي لم يكن الكثيرون يعرفون شيئاً عنها في حينها، عدا أهالي الدجيل وبلد الذين تحدثوا لمعارفهم عن العقوبات التي طالت المدينتين أعقاب هذه المجزرة، التي تراوحت ما بين عقوبات الإعدام، والسجن، وحجز العوائل وترحيلهم القسري إلى مناطق الجنوب من العراق.

إذ تحولت البلدة إلى ساحة انتقام دموية تعرض أهاليها للاعتقال والتعذيب والإعدام، علاوة على تدمير منازلهم وممتلكاتهم، وحتى مزارعهم، عندما تم اعتقال ما يقارب (800) رجل وامرأة وطفل، وجرى تعذيب عدد غير قليل منهم، وبعد أن احتجزوا لمدة سنة كاملة في بغداد أحيل قرابة (400) منهم إلى منفى داخلي في منطقة نائية جنوب البلاد، كما أحيل (148) محتجزاً من الذكور إلى محكمة الثورة للمحاكمة، وتذكر كثير من التقارير بأنهم حكموا بالإعدام عام 1984 بعد محاكمتهم صورياً؛ ليتم تنفيذ حكم الإعدام بحقهم عام 1985.

وتجدر الإشارة إلى أن الوضع العام في البلدة عقب المجزرة تمثل بترحيل الأسر والأشخاص من غير المعدومين إلى مقرات المخابرات، وسجن (أبو غريب)، ثم بعد ذلك إلى صحراء السماوة ليسكنوا في العراء لمدة ثلاث سنوات، وليموت العديد منهم بسبب شدة الجوع، أو المرض، أو الظروف البيئية السيئة، فضلا عن إزالة (16) ألف دونم من الأراضي والبساتين بتوجيه وإشراف من قبل طه ياسين رمضان.

وشملت معالم الإزالة أيضاً نهر الدجيل الذي يمتد عمره إلى حوالي (2500) سنة قبل الميلاد، وقيامهم بتبليط شارع فوق النهر، إلى جانب قيام صدام حسين في 23 تموز 1984 بإصدار أوامره بتدمير المنازل والمباني، وأشجار النخيل، وبساتين الفاكهة التي يمتلكها المدانون.

وشهد عام 1985 وتحديداً في شهر مارس إعدام (96 من أصل 105) من المدانين بقضية الاغتيال ممن بقوا على قيد الحياة، والأسوأ من ذلك إعدام عشرة أطفال تراوحت أعمارهم ما بين (11-17) عاماً ضمن المعدومين الـ (96)، إذ تم إعدامهم بصورة سرية بناءً على أوامر المخابرات.

وأسفر سقوط النظام بالحصول على مجموعة من الوثائق والتسجيلات التي عرضت على محكمة الدجيل التي ألقت الضوء على تفاصيل خفية عن ما حدث في هذه البلدة بعد عملية الاغتيال الفاشلة، فكان هناك كتاب قد رفع إلى رئيس مجلس قيادة الثورة صدام حسين من قبل رئيس المخابرات برزان التكريتي، اتضح فيه أن المشاركين في محاولة الاغتيال هم عشرة أشخاص فقط، إذ ورد في الكتاب ((لاحقاً للتقرير المرفوع لسيادتكم بتاريخ 11 تموز 1982 فقد أمكن لدائرة المخابرات التوصل إلى النتائج النهائية في قضية الاعتداء الآثم على حياة سيادتكم من خلال التدرج في تتبع وتقصي المعلومات عن المشتبه باشتراكهم في الحادث المذكور … إذ اعترف برهان يعقوب مجيد أمامنا بأنه في يوم الخميس المصادف 8 تموز 1982 كان قادماً لتوّه من وحدته العسكرية في تكريت، فقد لاحظ أن المدخل إلى المدينة مغلق؛ بسبب وجود سيادتكم داخل المدينة، عند ذاك اتجه إلى طريق البساتين وشاهد في طريقه المقبور (كريم كاظم جعفر) مقتولاً، والمقبور (حسين دحام سلطان) أيضاً مقتولاً سيما وأنهما كانا يحملان رشاشتين كلاشنكوف… وبدأوا بإطلاق النار على موكب سيادتكم، واشترك في الرمي كل من كريم كاظم جعفر وحسين دحام، مع البقية الذين قتل خمسة منهم واعتقل اثنان وهرب ثلاثة منهم)).

 وهنا يلاحظ وجود التناقض بين ما جاء في التقارير وما حصل بحق المواطنين في البلدة من عمليات الاعتقالات والتعذيب والإعدامات، هذا التناقض الذي ظهر بعد الكلمة التي ألقاها صدام حسين عندما قال ((ما راح يكدرون يجاوبون لأنهم عملاء على عدد الأصابع ما يطلعون أكثر من اثنين ثلاثة، أربعة، خمسة، عشرة لكن يظلون أبناء الدجيل .. تسعة وثلاثين ألف نسمة هذوله كلهم مخلصين وكلهم مع الثورة…)).

هذا الأمر هنا يطرح تساؤلاً مهماً ما هو ذنب الذين أعدموا؟، وما ذنب الذين جرت بحقهم عمليات التهجير القسري والقتل؟، وتجريف بساتينهم وأراضيهم؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل وفقاً للمعطيات بأن صدام حسين وحكومته البعثية إنما هي معروفة باستخدامها لأساليب العنف والقمع ضد أي تهديد لسلطته، وهو بمثابة عقاب جماعي لردع أي معارضة مستقبلية له ولنظامه، أي يمكن تفسير هذه الحالة بأنها استهدف إخافة المجتمع وإضعاف أي مقاومة من ممكن أن تواجه حكمه، حتى وإن كانت على نطاق محدود.

أضف إلى ذلك أن نظامه كان يعتمد على المركزية الشديدة، وإزالة أي معارضة داخلية؛ لكونه يعد أي تحدٍ لسلطته تهديداً لوجوده؛ لذلك لجأ إلى معاقبة البلدة بأكملها، وهي بمثابة رسالة مبطّنة مفادها أن أي محاولة لمعارضة النظام ستواجه بعقوبات قاسية، وأنها لن تفرق بين المذنبين والأبرياء.

يمكن القول في نهاية المطاف إن إعدام أبناء الدجيل وقتلهم وتعذيبهم هي مثال واضح وصريح على كيفية استخدام النظام الاستبدادي للعنف والقمع والترهيب والعقاب الجماعي؛ لإسكات أي صوت معارض له؛ من أجل الحفاظ على سلطته.

قائمة المصادر

  • عبد الهادي معتوق الحاتم، مجزرة الدجيل… في وثائق محكمة الثورة العراقية.
  • محمد مجيد، القسوة لدى صدام حسين – محاولة لتقديم تحليل لشخصية صدام حسين من خلال عرض وتوثيق أحداث في عهده.
  • محاكمة الدجيل أول محاكمة أمام المحكمة العراقية العليا، المجلد رقم 18، نوفمبر (تشرين الثاني)، 2006.
  • حسين نبيل نجف، تاريخ من الدم مجزرة الدجيل، الجامعة التقنية الوسطى، المعهد التقني الكوت، 19 حزيران 2020.
  • محمد عدنان علي، جرائم حزب البعث البائد من منظور العدالة الجنائية الدولية، المجلة العراقية للبحوث الإنسانية والاجتماعية والعلمية، العدد 13، حزيران 2024.