أ.د. حسين الزيادي
يعد كتاب فقه الجهاد أو فقه الدماء من أهم الكتب التي ترتكز عليها التنظيمات المتطرفة، وما يميز هذا الكتاب من غيره هو تمييزه بين ما يسميه أرض الإسلام وأرض الكفر، وفكرة أن الجهادي مخوّل بمحاربة غير المؤمنين أينما كانوا، وهذا الكتاب يتميز أيضاً بكونه يقدم رؤية متطرفة جداً لمعنى الجهاد، ويتوسع في تكفير الآخرين، الأمر الذي يجعله يدخل ضمن ما يسمى بالتحريض على الكراهية، أو ترويج البغض بإزاء فئة معينة وبطريقة علنية، وهو فعل جرمي وانتهاك لحرية التعبير، بل إن تحليل فتاوي الكتاب يشير إلى وجود دعوة للإبادة الجماعية، الأمر الذي يتعارض مع العهود والمواثيق والاتفاقيات الدولية، فقد نص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 على ما يأتي: تُحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف، وأعيد التأكيد في الفقرة الأولى من المادة (18) على أن لكل إنسان حقاً في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة، وفي الفقرة الثانية من المادة نفسها: لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما، أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وفي الفقرة الثالثة من المادة نفسها: لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده، إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية، وحظرت المادة (20) من العهد الدولي اية دعاية للحرب وأية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف. أما الإبادة الجماعية التي يدعو لها الكتاب فهي تتعارض وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، 96 (د – 1) لعام 1946، التي أعلنت أن الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، وأنها مدانة من قبل العالم المتمدن، ويحمّل نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي تم اعتماده في عام 1998 المسؤولية الجنائية ويعاقب كل شخص يحرض الآخرين بشكل مباشر وعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية بحسب المادة 25.
لا يمكن فهم السلوكيات المتطرفة للتنظيمات التكفيرية دون الوقوف على الأدبيات الفكرية، والركائز الفلسفية التي تستقي منها هذه التنظيمات أفكارها في مجالات ومحتويات متعددة ومنها المحتوى الجهادي، والدعوة للقتل واستباحة الدماء، وسنتعرض في هذا المقال لأخطر كتاب مرجعي حديث، وهو فقه الجهاد أو ما يُعرف لدى التكفيرين بـ (فقه الدماء)، وقد ظهر هذا الكتاب في شريط فيديو تدريبي نشره تنظيم داعش عام 2015 في العراق، حيث ظهر مشهد قصير لفصل دراسي، تبين فيه مجلد يعلو مجموعة من الكتب الدراسية، اتضح لاحقًا أنه كتاب (فقه الجهاد).
يُعد كتاب فقه الجهاد لأبي علي المهاجر الأساس الفقهي المعتمد لدى التنظيمات المتطرفة، والإطار النظري والقانوني الذي يوفر الغطاء الشرعي لسلوكيات التنظيمات المتطرفة، يقع الكتاب في 600 صفحة مع عشرين فصلاً، تكثر فيه عبارات: قطع الرأس، دق العنق والبتر، حرق الكافر حياً، اختطاف الكفار، قتل الجواسيس؟…الخ، وهو من أخطر المناهج التي يتكأ عليها التنظيم المتطرف، بوصفه مرجعاً فقهياً خصصه لتفسير سياسة التنظيم في التكفير والقتل واستباحة دماء الطوائف الأخرى، وتكفير العلمانية والليبرالية، ومن يؤمن بالديمقراطية ويمارسها، والأحزاب الوطنية والقومية على اختلاف توجهاتها، ويصف الكتاب الجماعات الإسلامية التي تقبل بالانتخابات أو تحللها بأنها مبتدعة، ويؤكد الكاتب أن استلام الحكم يقوم على ثلاث طرائق لا رابع لها هي: الوصية من الخليفة السابق، أو الشورى، أو بقوة السيف.
مؤلف الكتاب هو أبو عبدالله المهاجر (عبد الرحمن العلي) مصري الجنسية، تلقَّى علومه الإسلامية في باكستان، وكانت تربطه علاقة وثيقة بالزرقاوي، تخرج في الجامعة الإسلامية في إسلام أباد، وقاتل في أفغانستان، إذ أنشأ مركزا علمياً دعوياً في معسكر خلدن، ودرَّس في مركز تعليم اللغة العربية في قندهار، ثم في معسكرات المجاهدين في كابول، وتولى التدريس في معسكر الزرقاوي في العراق، وكانت له مساهمات فعلية في العمليات الإرهابية التي راح ضحيتها المئات من العراقيين الأبرياء.
خصص الكتاب الذي تفوح منه رائحة الدم والقتل والتوحش مبحثاً كاملاً بعنوان: مشروعية قطع رؤوس الكفار المحاربين، أكد فيه أن قطع الرؤوس أمر مقصود، بل محبوب لله ورسوله(1)، وقام مؤلف الكتاب بإيجاد الشواهد والآثار الدينية في تسويغ مختلف وسائل القتل والتعذيب، ولم يكتف بوسائل الذبح والإحراق، وإنما تناول القتل بإلقاء الحيات والعقارب على الكفار (بحسب تعبيره)، والإغراق بالماء، وهدم الجدران والبيوت، وبالرمي من المناطق الشاهقة.
يقرر المهاجر في كتابه أن البلاد التي يُحكم فيها بالقانون بلادُ كفر وشرك وإلحاد، وتجب الهجرة منها، وأن الإجماع منعقدٌ على إباحة دم الكافر إباحةً مطلقة، ما لم يكن له أمانٌ شرعي، وأن الإسلام لا يفرِّق بين مدني وعسكري، وبطبيعة الحال أن معايير الكفر لدى المهاجر تنطبق على الجميع؛ وفقاً لما وضعه من شروط وضوابط، ويصنف الكتاب البلدان إلى نوعين فهناك دار الإسلام، أي التي يطبق فيها الإسلام – بحسب المتبنى الفكري المتطرف – وهناك دار الحرب، إذ يقول: (إن كافة الدول في العالم وفي مقدمتها الدول العربية والإسلامية دخلت ضمن إطار الردة والكفر ويجب قتالها، وإن هذه الأحكام باقية حتى تعم الدعوة الإسلامية، وتبلغ كلمة التوحيد جميع الآفاق، ولا يبقى أحد من الكفرة)، والفقرة الأشد خطورة هو ما ذكره أرباب المدرسة المتطرفة: (انعقد إجماع أهل الإسلام كافة على أن دار الكفر: دار إباحة للمسلمين؛ فإذا دخلوها بغير أمان: فلهم التعرض لدماء الكفار وأموالهم بما شاءوا)، وتأسيساً على ما تقدم يمكن لنا أن نفسر حملات الإبادة والمجازر التي ارتكبتها عناصر التنظيم في انحاء متفرقة من العالم.
اعتبر كتاب مسائل من فقه الجهاد أن دليل العمل الإرشادي للتنظيمات المتطرفة والأساس الذي يستند إليه في مرجعتيه هو التراث الفقهي التاريخي للإسلام، لكن الذي يتضح للمتلقي أن هناك طريقة انتقائية متعسفة في التعامل مع النصوص الدينية؛ لتمرير أفكار معينة وإيجاد مسوغ لها، فضلاً على الاعتماد على حوادث وشواهد تاريخية لشخصيات يقدسها المؤلف على الرغم من انحرافها الفكري والعقائدي، الأمر الذي لا يجعل من عملها أو تقريرها مسوغاً لمشروعية الفعل.
ويبحث الكتاب في المسألة الثامنة مشروعية رمي الكفار الحربيين بكل ما يمكن من السلاح وإن اختلط بهم من لا يجوز قتله من المسلمين، بمعنى آخر أن هناك جوازاً لمبدأ – الغاية تبرر الوسيلة – وجاء في المسألة التاسعة مشروعية أعمال التخريب في أراضي العدو وأملاكه ومنشآته، أما المسألة العاشرة فهي بعنوان مشروعية خطف الكفار الحربيين، وذهبت المسألة الحادية عشرة إلى البحث في أحكام المثلة وموارد جوازها، وقد خصصت المسألة الثانية عشرة لمشروعية قطع رؤوس الكفار المحاربين واستراتيجية الأرض المحروقة.
وذهب المهاجر إلى أن العلة في جواز القتل لا ترتبط بمسألة المحاربة، وهذا يعد من أغرب المسائل وأكثرها خطورة؛ لأنه بهذا يبيح قتال الجميع حتى وإن لم يكونوا مقاتلين، وهذا يتضح من المسألة الثانية؛ إذ يقول المهاجر: إن لا عصمة من القتل واستحلال المال إلا بالإيمان، إذ إن مجرد الكفر يعني الدخول في حد الحرب وجواز أو وجوب القتل، فهو يقرر بأن: كل كافر لم يؤمّنه أهل الإسلام بعهد من ذمة أو هدنة أو أمان: فلا عصمة له في دم أو مال، وقد بحث في المسألة الرابعة مشروعية اغتيال الكافر المحارب، وخصص المسألة الخامسة في جواز العمليات الاستشهادية (الانتحارية)، ويستدل على جوازها بحوادث متشابهة تاريخيا ونصوص قرآنية متجزئة وأحاديث نبوية مختلقة، ويختتم استنتاجه بالقول: ظهر بما سبق معنا: مشروعية العمليات الاستشهادية بصورتها المعاصرة بدون أدنى شك أو شبهة.
الجدير ذكره أن مؤلف الكتاب، أي: أبا عبدالله المهاجر، قد قُتل في شمال شرقي سوريا أثر ضربة جوية أمريكية، ومن اللافت للنظر أن المهاجر عند مقتله، كان منتسباً لجبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، الأمر الذي يشير إلى تطابق الرؤى والأفكار بين التنظيمات الإرهابية، وإن اختلف البعد المكاني والزماني لوجودها، وقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية أن كتاب (فقه الجهاد) قد خضع لتحليل خبراء بريطانيين، وأن فريق العمل برئاسة (كويليام) ومقره في لندن أنفق عامين في دراسة الكتاب وتحليل محتواه من الناحية النفسية والاجتماعية والدينية، وأعد تقريراً تفصيلياً دقيقاً بذلك، ووصف فيه النص الذي ورد في كتاب فقه الدماء بأنه: (قبيح وخبيث ومثير للاشمئزاز)، وإن المتلقي الذي لا علم له بتعاليم الإسلام من الممكن أن يغويه هذا الكتاب ويضله بسهولة.
إن مواجهة هكذا أدبيات منحرفة يستدعي وجود منظومة قانونية وإعلامية وتربوية، فالقانون يشرع القوانين التي تجرم دعوات العنف والكراهية، في حين يروج الإعلام لخطاب الاعتدال والتعايش السلمي، أما الجانب التربوي فيأخذ على عاتقه التحصين الفكري للشباب، وغربلة التراث الديني المتطرف الذي يدعو إلى العنف والقسوة والتكفير.
المصادر
- أبو عبد الله المهاجر، مسائل من فقه الجهاد، (د.ن)، (د.ت)
- عابد بن محمد السفياني، دار الإسلام ودار الحرب واصل العلاقة بينهما، رسالة ماجستير، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، الرياض، 1401 هـ
- أبو بكر ناجي، إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة، ([د.م]: مركز الدراسات والبحوث الإسلامية).
- خالد بن عبد الله البشر: تقسيم الدار في الفقه الإسلامي، بحث تكميلي للماجستير، جامعة الملك سعود، كلية التربية، قسم الدراسات الإسلامية، عام 1419هـ/1420هـ
(1) أبو عبد الله المهاجر، مسائل من فقه الجهاد، (د.ن)، (د.ت).