banarlogo

التوثيق ليس نبشاً للماضي

أ.د. حسين الزيادي

 

 

   في المجتمعات التي تعرضت لانتهاكات ممنهجة وممارسات قمعية، أو تعرضت لسيطرة أنظمة ديكتاتورية شمولية، يبرز سؤال جوهري مفاده: هل البحث في تاريخ هذه المجتمعات هو نبش للماضي، وأمر من شأنه أن يُعيق المصالحة، ويفجر الصراعات؟ أم أنه توثيق ضروري لضمان حفظ الذاكرة الجماعية، ويمهد لمصالحة حقيقية، ويضمن عدم تكرار الانتهاكات والجرائم؟  وحقيقة القول إن التوثيق يُعد حجر الزاوية في العدالة وحفظ التاريخ، وهو التزام أخلاقي يعزز الأمانة، ويحقق العدل، ويمنع النزاعات، فهو مسؤولية تاريخية وأخلاقية وقانونية تجاه الأجيال القادمة، وأنه التزام شرعي وإنساني تجاه الضحايا والمضطهدين، فضلا عن كونه وسيلة قانونية لحفظ الحقوق، وأداة لحفظ الذاكرة التاريخية، ولا نستغرب في ظل انعدام التوثيق أن يأتي بعد بضع عقود أو قرن من الزمن من ينكر وجود مجزرة سبايكر، أو يشكك في مذبحة حلبجة، أو يرتاب في ضرب القباب المشرفة في كربلاء المقدسة، فالتوثيق ذاكرة الشعوب الحية، وتعبير حقيقي عن حيوية الأمة واعتزازها بشهدائها ورموزها وتاريخها، ودفاعها عن مقدساتها وقيمها ومبادئها، ومن جهة أخرى أن التوثيق دعامة أساسية لمصالحة شاملة تتجاوز بها الأمة الماضي بكل معوقاته، ولا يمكن بأية حال من الأحوال بناء مصالحة على ركام من الخلافات وعدم الإقرار بحق الآخر ومظلوميته، فالمنطق يقول إن الاعتراف بالخطأ والندم على الفعل يُعد المنطلق الرئيس للمصالحة.

   للتوثيق هدف بَنّاء هو كشف الحقائق وحفظها والحيلولة دون طمسها وتحريفها وإعادة صياغتها وفقاً لأقلام الطغاة، ليكون هناك سجل تاريخي وقانوني للأمة، ولا يهدف التوثيق إلى إثارة النزاعات العاطفية؛ لأنه يعتمد على مصادر ووثائق واعترافات وأدلة حقيقية ملموسة، ولا يعتمد على روايات انتقائية أو تهويل إعلامي لجوانب دون أخرى.

   وتأسيساً على ما تقدم فإن التوثيق هو عملية مستمرة وهادئة تهدف لتعزيز المساءلة والمصالحة، لا لتعميق الانقسامات أو إحياء الصراعات، بينما عملية نبش الماضي تتميز بكونها عملية انتقائية مرحلية تحدث في أزمان معينة بهدف تحقيق أهداف وغايات سياسية ومصالح اقتصادية واجتماعية وإعلامية، والتوثيق يختلف تماماً عما يصطلح عليه البعض بنبش الماضي؛ لأنه يهدف إلى بناء سجل منيع ضد التزييف المعلوماتي، وأنه يهدف إلى تحقيق الوئام والانسجام، وليس غرس الكراهية، ولا يتحدث عن حقوق شريحة سكانية معينة دون أخرى.

   إننا في حملاتنا التوثيقية نسعى ونجتهد لتحقيق الموضوعية في توثيق الأحداث وتعرية الأكاذيب التي حاول النظام الديكتاتوري إرساء معالمها وتسويقها، وجند لها منظومة ضخمة من الأقلام المأجورة استطاعت أن تجتاح عقول كثيرين بأفكارها المزيفة وآرائها المنحرفة، ولسنا الوحيدين في هذا الجانب، فأغلب شعوب المعمورة تؤرخ لماضيها وتوثق لأحداثها، فهناك أرشيف الرعب في كمبوديا الذي وثّق جرائم الخمير الحمر، فمنع تكرارها، وكذلك تم توثيق الانتهاكات في فيتنام، ومذبحة الأرمن، ومذبحة ناكينج الصينية، وغيرها كثير.

   وبناءً على ما تقدم يمكن القول إن التوثيق لم يكن في يوم من الأيام ترفاً أكاديمياً، أو بحبوحة فكرية، فهو ضرورة تحتمها الأخلاق والمهنية، وهو ضمانة للمستقبل؛ إذ أثبتت الدراسات أن المجتمعات التي توثّق جرائم الماضي (مثل جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري) أقل عودة للعنف، فالمجتمعات التي توثق ماضيها تُرسي قواعد المصالحة الحقيقية، وللأسف الشديد هناك من يتخذ بحجة التركيز على الحاضر ذريعة لنسيان الماضي بكل أحداثه، ويطالب بإسدال الستار على التاريخ الإجرامي للأنظمة الشمولية في العراق، وهي نظرة قاصرة تحمل من السذاجة وعدم الوعي الشيء الكثير؛ لأن القاعدة العقلية تقول: إن ما ينسى يمكن أن يتكرر، ولاسيما أننا نعيش في عصر معبأ بكل ما من شأنه أن يسهم في غسل العقول وتوجيهها.

   أخيراً علينا أن نجعل من التوثيق ثقافة وممارسة موضوعية واعية تحفظ الحقوق وتعزز الاستمرارية مع مسايرة الأساليب الرقمية في الجانب التوثيقي، كما باتت الحاجة ماسة في ظل القرصنة الإلكترونية إلى اعتماد معايير صارمة لأمن المعلومات وسرية البيانات والوثائق، وبهذا من الضروري أن يكون التوثيق جزءاً من مشروع وطني وإنساني يسهم في تلافي أخطاء الماضي وتضميد جروحه، وبناء مستقبل آمن مزدهر يقوم على أساس التعايش السلمي والحوار المجتمعي.