أ.د. حسين الزيادي
لقد خالف نظام البعث بديهية اساسية في القوانين الوضعية والشرائع السماوية، إذ اجرى أحكاماً احترازية خارج نطاق القضاء على اشخاص بتهمة الحزن والجزع والاسى، الناجمة عن اعدام او اعتقال أحد اقاربهم أو ارحامهم، فأبعدوا نتيجة لذلك من وظائفهم وحرموا من موردهم الاقتصادي بدون اَي واقعة جرمية او قرينة مشاركة، والأغرب من ذلك ان البعض اعتقل واودع السجن بناءً على تأثره او انفعاله او ما يبدو عليه من ملامح الحزن، ومن الطبيعي ان يكون لإبعاد هؤلاء من وظائفهم آثار ونتائج اقتصادية واجتماعية ونفسية وخيمة لا تتعلق بشخص الفرد، وانما تشمل عائلته ومن يعيلهم، وهو امر لا يتسع المجال للإسهاب فيه، لكن ما نود التوسع فيه هو أصل المخالفة التي تتعارض مع مبادئ الدساتير العالمية والاعراف والمواثيق والاعلانات العالمية، كما انها تتعارض مع المادة الاولى من قانون العقوبات العراقي (111) لعام 1969 التي يشير بمنتهى الوضوح الى انه: (لا عقاب على فعل او امتناع الا بناء على قانون ينص على تجريمه وقت اقترافه ولا يجوز توقيع عقوبات او تدابير احترازية لم ينص عليها القانون)، القانون الجنائي كما هو معروف يرتكز بصفه أساسية على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات.
فالقانون لا علاقة له بالنوايا والانفعالات والمشاعر والعواطف، وإلا فكيف للقانون أن يحاسب على افعال لا علاقة للإنسان بها، بل هي خارجة عن ارادته، كالحسد مثلا، أو الجزع، او الغيرة، او الحزن وغير ذلك كثير؟ فهذه الانفعالات والدوافع والعواطف بعيدة عن ارادة الانسان، ويذهب القانون الى ابعد من ذلك فهو لا يعاقب على النية الجرمية إن وجدت، إلا اذا تحولت تلك النية الى فعل مادي ملموس (سواء نجح بإتمام الفعل او فشل)، لكن نظام البعث مارس مغالطة كبيرة ومخالفة تشريعية لبديهية انسانية عندما جعل من المشاعر والانفعالات سبباً للعقاب، كما يتضح من الوثائق المرفقة ربطاً والتي تشير الى ابعاد اشخاص من مهنهم الوظيفية لظهور علامات (التأثر) عليهم.
تعبر الانفعالات عن حالة نفسية طبيعية تنشأ نتيجة مثير مفاجئ وتضطرب خلالها شخصية الإنسان ثم لا تلبث ان تضعف وتزول ضمن مراحل زمنية مختلفة بحسب قوة حالة المثير، وتبدو حالة الاضطراب هذه في بنية الشخص المعرفية وخبراته الشعورية وردود أفعاله الفيزيولوجية وتعبيراته الخارجية وتصرفاته المختلفة , ومن الطبيعي ان فقدان شخص ما او تعرضه للاعتقال او السجن يسهم في ايجاد مساحة معينة من الحزن والتأثر غير خاضعة لإرادة الانسان، لذلك فإجراءات نظام البعث تدخل ضمن ما يسمى (العقوبة الانتقامية) وهو بذلك يعتبر الانفعال والتأثر منشط للدوافع، اي ان مشاعر الحزن تستثير الدافع الانتقامي، لذا جاءت اجراءات البعث بوصفها حركة استباقية مبنية على الظن والتوَقَعَ والشك، وهو منطق غاية في الغرابة فضلاً عن كونه مظهر من مظاهر التعسف والقمع والاستبداد.
من جهة اخرى تعد ممارسات نظام البعث فيما يتعلق بسريان العقوبة على عائلة وأقارب الجاني مخالفة صريحة لمبدأ سيادة القانون، وتفريطاً تاماً بمبادئ حقوق الإنسان؛ لأنها تعدّ إساءة لعائلة الجاني وأقاربه، وتسهم في تشتيت العائلة، وحرمانها من الامتيازات التي يمنحها لهم حق المواطنة كالتعينات والتملك وغيرها، ووفقاً للمعايير الدولية فالأمر يتعارض مع الأعراف، والمواثيق الدولية، ومنها الملحق الثاني الإضافي إلى اتفاقيـات جنيـف عام 1977، وتحديداً في المادة السادسة المتعلقـة بالمحاكمـات الجنائية التي تنص في أحد بنودها على: أن لا يدان أي شخص بجريمة إلا على أساس المسؤولية الجنائية الفردية، لذا فإن ما قام به نظام البعث يأتي ضمن سياسة العقاب الجماعي، وهذا ما يتعارض مع دستور العراق المؤقت 1970 على أن: أ ـ العقوبة شخصية. ب ـ لا تجوز العقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون جريمة في أثناء اقترافه.
ونظام البعث بما سبق ذكره يكون قد خرق مبدأ شخصية العقوبة، فضلاً عن مبدأ الشرعية، واختراق شخصية العقوبة يُعد مخالفة لقانون العقوبات العراقي النافذ رقـم (111) لسـنة 1969 الذي نص في المادة الأولى منه على أنه (لا عقاب على فعل، أو امتناع إلا بناء على قانون يـنص علـى تجريمـه وقـت اقترافه، ولا يجوز توقيع عقوبات، أو تدابير احترازية لم ينص عليها القانون)، وهو مبدأ نص عليه الدستور المؤقت للعراق لسنة 1970 في المادة 19/أ العقوبة شخصية والمادة 19/ب لا تجوز العقوبة إلا على الفعل الذي يعدّه القانون جريمة أثناء اقترافه.
اما العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية فقد نص في جزئه الثاني/ المادة الثانية على ان: تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد باحترام الحقوق المعترف بها فيه، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا، أو غير سياسي، أو الأصل القومي، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب)، كما نص العهد في المادة (17) على عدم جواز تعريض أي شخص لتدخل تعسفي أو غير قانوني في خصوصياته أو أسرته.