أ.د حسين الزيادي
تفشت انتهاكات اقتحام المنازل في زمن البعث منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتعد عمليات التفتيش الليلية الظاهرة الأسوأ في زمن البعث؛ لكونها تسبب الرعب للأطفال والنساء، وكانت هذه الجريمة تنال المعارضين لنظام البعث، والمتخلفين عن الخدمة العسكرية والهاربين منها، وكل من يُشك في ولائه لسلطة البعث، لكن هذه الظاهرة انتشرت بشكل لافت للنظر بعد الانتفاضة الشعبانية في وسط العراق وجنوبه، فكان اقتحام المنازل ينال مساكن رجال الانتفاضة وقادتها، وانتهاك حرمة البيوت واقتحامها والتفتيش القسري غالباً ما يتم في أوقات متأخرة من الليل من دون مذكرة تفتيش قضائية، إذ يتوجه رجال الأمن أو الاستخبارات أو الجيش الشعبي بأعداد كبيرة، وهم مُدججون بالسلاح ليقتحموا البيت من جميع الجوانب، ويبقى هناك جزء من العناصر الأمنية تطوق المنزل المراد اقتحامه، ويتم دفع الباب بقوة أو كسر الأقفال إن وجدت أو اقتلاع الباب من دون الاكتراث لحق أصحاب المسكن، وتبدأ ظاهرة تفتيش المنزل في كل أجزائه للقبض على الهدف المطلوب، وسط حالة من الارتباك والذهول والرعب التي تنتاب أفراد العائلة، ويكون وقع ذلك شديداً على الأطفال والنساء، وفي ذلك مخالفة للمادة الحادية عشرة من الباب الثاني التي تنص على أن: الأسرة نواة المجتمع، وتكفل الدولة حمايتها ودعمها، وترعى الأمومة والطفولة.
فضلاً عن أن اقتحام المنازل أمر غير قانوني، فهي ظاهرة غير أخلاقية ومرعبة ومؤذية ومذلة، وتتعارض مع مبدأ الخصوصية التي يجب أن يتمتع بها الإنسان في منزله، وفي بعض الأحيان تتعرض ممتلكات العوائل للسرقة من قبل القوة التي تقتحم المنزل، التي تبدأ بالعبث في محتويات المنزل، وغالباً ما تكون تلك المفقودات من الحلي الذهبية، أو مبالغ من الأموال، أو الأحجار الكريمة والنفائس، وغيرها من السلع التي يسهل إخفاؤها، ولا يستطيع رب الأسرة التبليغ عن السرقة؛ لأن ذلك يسبب باعتقاله بتهمة التلفيق والتجني على قوات الأمن.
مخالفة الدستور المؤقت لعام 1970
إن في عملية اقتحام المنازل وترهيب أهلها مخالفة صريحة لدستور العراق المؤقت لعام 1970، وتحديداً في الباب الثالث منه المتعلق بالحقوق والواجبات الأساسية، إذ نصت المادة الثانية والعشرون: في الفقرة (ج) أن للمنازل حرمة، لا يجوز دخولها أو تفتيشها، إلا وفق الأصول المحددة بالقانون، كذلك يعارض هذا الفعل الفقرة الأولى من الباب الثالث، التي نصت على أن كرامة الإنسان مصونة، وتحرم ممارسة أي نوع من أنواع التعذيب الجسدي أو النفسي، فضلاً عن مخالفة هذا الفعل للفقرة (ب) التي نصت على عدم جواز القبض على أحد أو توقيفه أو حبسه أو تفتيشه، إلا وفق أحكام القانون، وبذلك تتضح مخالفة نظام البعث للدستور الذي خطته يداه، والذي يفترض أن يوجه أفعاله ويضبط تصرفاته.
صلاحيات واسعة
إنّ عدم ارتباط عمليات التفتيش والاعتقال بالجهات القضائية، جعل منها عمليات فوضوية غير منضبطة، تسببت بفزع المواطنين وعدم طمأنينتهم وهلعهم، علماً أن عمل الأجهزة الأمنية من الجيش والأمن والمخابرات وعناصر الحزب والجيش الشعبي لا يندرج ضمن قانون العقوبات 111 لعام 1969؛ لأن العقوبات التي أدرجها المشرع العراقي على جريمة انتهاك حرمة المسكن في المادة (428) تختص بالمواطنين أو من ينتحل صفة معينة، أما الإساءات والتصرفات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية في ظل نظام البعث فيمكن أن تشملها المواد 322 و 324 و333، وهذه المواد تتعلق بسوء استعمال السلطة، وتجاوز الموظف حدود صلاحياته، والتعذيب أو الإيذاء البدني، وعلى الرغم من وجود قوانين وضوابط تختص بقانون العقوبات العسكري، وقانون انضباط قوى الأمن الداخلي، إلا أن تلك القوانين والضوابط أعطت صلاحيات واسعة وحرية كبيرة للقوى الأمنية لممارسة أعمالها واعتقال أي شخص ومداهمة من يشك في ولائه، فضلاً عن انتزاع الاعترافات بالقوة، وربما تصل تلك المرونة في الضوابط إلى مستوى وفاة المعتقل أو السجين تحت التعذيب، وهو أمر صرّح به رأس الهرم الحاكم في السلطة ضمن توجيهاته للأجهزة الأمنية التي أخذت تمارس سلطات واسعة في ظل الصلاحيات الممنوحة لها.
انتهاك المسكن في التشريعات الدولية
إن العلة في تجريم انتهاك حرمة المسكن هي الاعتبارات النفسية؛ لكون المسكن هو الملاذ الآمن الذي يلجأ إليه الفرد للاستقرار النفسي له ولعائلته، وأن أي خلل أو اعتداء من هذا القبيل يعرض الفرد وعائلته إلى القلق والرعب وعدم الشعور بالأمان، وقد اتفقت جميع التشريعات الدولية على أن للمسكن حرمة خاصة، ولا يجوز لأي طرف كان أن يقتحمه إلا وفق مذكرة قضائية.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
قد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعدّ المرجعية الأساسية لحقوق الإنسان على ضمان الحق في المسكن وحرمته، جاء في المادة 12: لا يجوز تعريض الإنسان لتدخل تعسفي في حياته الخاصة، أو في شؤون أسرته، أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمس شرفه وسمعته، ولكل شخص حق في أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل.
العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية
قد جاء في البند الثاني من المادة الخامسة للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية: ليس في هذا العهد أي حكم يجوز تأويله على نحو يفيد انطواءه على حق لأي دولة أو جماعة أو شخص بمباشرة أي نشاط أو القيام بأي عمل يهدف إلى إهدار أي من الحقوق أو الحريات المعترف بها في هذا العهد، أو إلى فرض قيود عليها أوسع من تلك المنصوص عليها فيه، ولا يقبل فرض أي قيد، أو أي تضييق على أي من حقوق الإنسان الأساسية المعترف أو النافذة في أي بلد؛ تطبيقا لقوانين أو اتفاقيات أو أنظمة أو أعراف، بذريعة كون هذا العهد لا يعترف بها، أو كون اعترافه بها في أضيق مدى، أما المادة التاسعة فقد نصت على أن لكل فرد حق في الحرية، وفى الأمان على شخصه، ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا، ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقا للإجراء المقرر فيه، ويتوجب إبلاغ أي شخص يتم توقيفه بأسباب هذا التوقيف لدى وقوعه، ويتوجب إبلاغه سريعا بأية تهمة توجه إليه، أما المادة 17من العهد فقد نصت على أنه لا يحوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، لتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته.
وفضلاً عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومبادئ العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، فقد ذكر تجريم اقتحام المنازل في الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان / منظمة العمل الإسلامي الذي نص على أن للمسكن حرمته في كل حال، ولا يجوز دخوله بغير أذن أهله، أو بصورة غير مشروعة، ولا يجوز هدمه أو مصادرته أو تشريد أهله منه.
المصلحة المحمية في جريمة انتهاك حرمة المساكن
وجود السكن الذي يأوي إليه الإنسان يعد من أهم الحاجات الأساسية التي لا غنى عنها للإنسان، ويكون لهذا المكان حرمة خاصة، ويوفر له القانون حماية مشددة، وتلحق به توابع المسكن كالحديقة أو الكراج وغيرها، ويوفر القانون حماية للمسكن؛ لكونه يعد مستودع أسرار الإنسان، ويضم بين جنابته الأشياء الخاصة به، وأن حرمة المسكن تتصل بشكل مباشر بالحق في الخصوصية، فلا يجوز دخول مسكن من دون إذن صاحبه، وهو الأمر الذي أرساه المشرع السماوي والدساتير الدولية.
إن المصلحة المحمية في جريمة انتهاك حرمة المسكن هي احترام حق الإنسان في خصوصيته، وهي واحدة من أهم مقومات الحرية الفردية، سواء ارتكب الجريمة أحد الأفراد أم ارتكبها أحد ممثلي السلطة العامة (الموظف العام)، ولما كانت الحرية قيمة إنسانية معنوية، فالمشرع لا يحمي حرية المكان، وإنما يحمي حرية الإنسان، إذ إن حرية الإنسان في اختيار مسكنه، وحريته في تغييره، مظهراً لحماية الحق لحرمة المسكن، فالحرية الفردية هي محل الحماية في جريمة انتهاك حرمة المسكن ، أما الأمن والسكينة والهدوء فهي نتائج لتلك الحماية، وعليه فوجود الحق في حرمة المسكن ليس رهنا بالقانون، بل إن حمايته فقط توجب تدخل القانون لإقراره ثم حمايته من الاعتداء عليه.
المصادر
عبد الوهاب العشماوي، حرمة المسكن وحصانته وقضاء المحكمة الدستورية العليا، مجلة الأمن العام، العدد (106)، السنة (27)، 1984م .
د. أحمد فتحي سرور، أصول قانون العقوبات، القسم العام، ط (2)، دار النهضة العربية، القاهرة، 1972م.
حسين الجميل، حقوق الإنسان والقانون الجنائي، معهد البحوث والدراسات العربية، دار النشر للجامعات المصرية، القاهرة ،1972.