د. رائد عبيس
المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف
بعد 37 عاما على جريمة الإبادة الجماعية التي طالت الأكراد في شمال العراق، في محافظة السليمانية مدينة حلبجة التي طالها الإجرام الصدامي باتخاذ قرار ضرب سكان مدينة حلبجة بغاز الخردل الذي تسبب بمقتل ما يقارب خمسة آلاف ضحية، وعشرات الآلاف من الضحايا المصابين. وما زالت آثار هذه الجريمة ماثلة في كل تفاصيل حياة المدينة. وهذا الحضور المؤلم، يحتاج إلى دراسة أنثربولوجية خاصة تعنى بالبحث في تفاصيل هذه الإبادة الجماعية وأسبابها التي تكونت قبل هذه الجريمة وحينها وبعدها؛ نتيجة سياسة التخوين، والاتهام، ونزعة الإبادة التي تحملها القيادة البعثية تجاه الكرد وغيرهم، وهذه ما كانت واضحة من خلال تصريحات كثير من مسؤولي البعث في حينها، مثل: علي حسين المجيد الملقب (علي الكيمياوي) الذي أبدى استعداده لتنفيذ هذه العملية والخلاص من الكرد وإبادتهم، وهذا ما كان واضحاً من خلال التسجيل الصوتي الذي نسب له.
فلماذا نحن بحاجة إلى دراسة الإبادة الجماعية في العراق وحلبجة على وجه الخصوص دراسة انثروبولوجية؟ وذلك لأن الأنثروبولوجيا معنية بدراسة نشاط الإنسان الفردي والجماعي، ومثل هذا النشاط الذي قد خلف لنا جريمة، مثل: جريمة الإبادة الجماعية، فحري بنا أن نقوم بدراستها على أساس هذا النشاط، وتبعاته الكارثية في حالة الإبادة الجماعية هذه.
وهي جريمة إبادة عرقية مقصود بها استهداف سكان هذه المدينة المتاخمة مع الحدود العراقية الإيرانية، فهي أقرب إلى حدود إيران منها لحدود العاصمة.
فالمتغيرات الاجتماعية والإنسانية التي طرأت بعد حادثة حلبجة، مثلت صدمة حقيقية للوجدان الإنساني العراقي، والكردي على وجه الخصوص، فهي تعد أكبر جريمة إبادة مقصودة، ومستهدف بها الكرد قومياً وطائفياً ومناطقياً من قبل حكومة البعث الصدامي آنذاك.
فعلى مستوى الضحايا القتلى:
بلغ عددهم 5000 ضحية، معظمهم من المدنيين، وكانت قد أبيدت عوائل بالكامل، مع مشاهد إجرامية لعمليات القتل التي تعد مروعة للغاية، فمازالت ماثلة في مخيلة كثير ممن شهد هذه الجريمة. وعمليات القتل هذه على وفق النظرة الأنثروبولوجية، قد أسهمت في تغيير الوعي البشري بحجم مثل هذه الكارثة الصادمة للوجدان البشري من الناحية القيمية والاجتماعية والإنسانية. فتسبب بإعادة تمثيل القيم محلياً وإقليمياً ودولياً، التي تعززت بها من عمليات الرصد، وتقديم المساعدات، والاستجابة لطلبات المساعدة، وتبرعات الإنقاذ، والإيواء والتبني لمن نجي منهم، فالمنظر الإنساني المشاهد حينها كان حقيقة لا يمكن تجاوز صدمته، والناس يهربون ويتركون جثث أهاليهم في الطرقات، والملاجئ، والبيوت، والمزارع.
أما على مستوى الضحايا المصابين:
فقد تراوحت أعدادهم التقريبية إلى عشرات الآلاف، وهناك أرقام تشير إلى أكثر من مائة وثمانين ألفاً من الضحايا، إصاباتهم تتراوح بين الخطيرة والمتوسطة، والبسيطة؛ إذ أصيب معظمهم في ضيق التنفس، والاختناق، والطفح الجلدي، والتلوث الإشعاعي المصاحب لعميات الهجوم، والتلوث، والسعال، والقيء، والحروق، وبعضهم مات بسبب الصدمة، والرعب، والخوف أو الهستيريا، فلجأ من تمكن منهم من الهرب إلى الحدود العراقية الإيرانية؛ إذ قدم لهم الصليب الأحمر الإيراني خدمات المساعد والإيواء، ولكن لم يتمكن من حمايتهم من ملاحقة الطيران العراقي الذي أستهدفهم على الحدود، وقتل المئات منهم. ولم تقتصر الإصابة والموت والأمراض على البشر فقط، بل شملت كل الحيوانات والنباتات، حتى تلوثت البيئة، وأصبحت غير صالحة للعيش، ومزروعاتها غير صالحة للأكل أو غيره.
فالحركة الاجتماعية المصاحبة لعملية الإبادة الجماعية، والاستهداف المستمر أثناء عمليات ضرب الكيمياوي بالغاز على سكان مدينة حلبجة. مثل النزوح، واللجوء إلى إيران، والشعور بالخذلان، ضعفت لديهم فكرة الانتماء لهذا البلد، وخلفت لديهم الكراهية من كل من تسبب لهم بهذا الألم. كلها ظواهر يجب أن تدرس في سياق الآثار الاجتماعية والأنثروبولوجيا السلبية التي خلفتها، مثل هذه الجريمة التي مازالت ماثلة إلى اليوم.
أما على مستوى المفقودين:
فقد خلفت هذه الكارثة البشرية والعسكرية بحق الأكراد المئات من الضحايا، منهم من أكلته الحيوانات المفترسة، ومنهم من فقد في عمليات الدفن الجماعي بعد عمليات توقف الهجوم وإخلاء الجثث من موقع الجريمة، ومنهم من غادر العراق للعلاج وغيره ولم يعد لا سيما في البدان المجاورة في تركيا وايران، ومازالت عشرات، بل مئات العوائل لا تعرف مصير كثير من أبنائها الذين ذهبوا لتلقي العلاج ولم يعودوا. أما الأطفال فقد تم تبنيهم من قبل عائلات إيرانية وتركية بعد نقلهم إلى مستشفيات هذان البلدان، ولم يعودوا إلى يومنا هذا، وقد مات كثير من الناجين بحسرة التعرف على أولادهم، وإعادتهم من وجهتم التي توجهوا إليها.
هذا النسيج الاجتماعي الذي تخلل تماماً، يعد مساحة بحثية مهمة لعلم الأنثروبولوجيا، لدراسة مخلفات الإبادة الجماعية في كل مكان تحدث فيه، والعراق واحد منها، وهو مستحق تماما لإنعاش هذا التخصص؛ لدراسة هذه الآثار الإنسانية التي لا تزال تحفر ألماً في وجدان أهالي حلبجة، ومن يملك ضمير تجاه قضيتهم.
فمازال أهالي حلبجة يسألون لماذا حدثت الأنفال بحقنا؟ لماذا تمت إبادتنا؟ لماذا أفقدونا أحبتنا؟
مظاهر أنثروبولوجية لجريمة حلبجة (الأنفال) :
عمد سكان حلبجة إلى تخليد مأساتهم وذكرياتهم المؤلمة، فمازالت دموع أهاليهم تنزل إلى اليوم، كلما مر الحديث عن هذه الجريمة البربرية الوحشية غير المسوغة بحقهم. فتوجّهوا إلى تخليد هذ الجريمة بمنهجية ثقافية للتعريف بالجريمة وفاعلها من خلال نشاطهم التعليمي والثقافي في المدينة، وقاموا بوضع نصب كبير يرمز إلى حادثة الأنفال وموقعها، مع مشاهد مصورة، ومجسمة توضح تفاصيل هذه الجريمة، فضلاً عن مقتنيات الضحايا، ومعرض من ملابس الضحايا، ومعرض لصور الشهداء ما توفر منها، مع نصب خارجي يحمل رمزية ودلالة تعبر عن هذه الجريمة.
تبعات أخرى لدراسة أنثروبولوجية أوسع:
- مثل المطالبات القانونية والإدارية في تحويل حلبجة إلى محافظة على وفق هذا الاستحقاق المعنوي؛ لما حل بهذه المدينة من كوارث الإبادة الجماعية؛ لمحاولة لتعزيز الإنصاف لهم ولها، والإسراع في التصويت على قانونها.
- تشريع قانون عطلة 16/3 في قانون العطل الرسمية المشرع بالرقم (12) لسنة 2024؛ لتعزز ذاكرة الألم وإحياء إبادة أنفال حلبجة، وهو يوم 16/3/ من كل عام لإنصاف الضحايا وتخليد ذكراهم.
- فضلا عن المطالبات الاجتماعية، والحقوقية، والدبلوماسية، والسياسية، بين آونة وأخرى، لمحاولة إعادة أطفال حلبجة المتبنين من قبل عوائل إيرانية وتركية. فهم اليوم أصبحوا شبابا ورجالا تعلموا لغات أخرى فارسية وتركية؛ مما يعصب معها اندماجهم في المجتمع الحلبجي والكردي والعراقي، فقد حاول بعضهم بالعودة الطواعية، وفشلوا نتيجة هذه الأسباب، وهذه تبعات موضوعية بحاجة إلى بحوث أنثروبولوجية مستفيضة.
فالسياق الثقافي، والعمراني، والتربوي، والتعليمي، والاجتماعي، والبيئي، لهذه الجريمة، يستوجب دراسات أنثروبولوجية معمقة لطبيعة السلوك الناشئ عن آثار هذه الجريمة داخل هذه السياقات، وما تبعها من نشاط يعزز من تخليدها، وتجنب تكرارها، ودراسة إعادة تشكل النسيج الاجتماعي بعد تجاوز محنة هذه الإبادة.
فضلاً عن دراسة السياق السياسي انثروبولوجيا، الذي أوصلنا إلى هذه الكارثة السياسية النابعة من منهجية سياسية قائمة على الشوفينية، والشمولية، والاستبداد، ونزعة القتل المفرطة التي حملتها أيديولوجيا البعث الصدامي.