أ.د. حسين الزيادي
التطرف عبارة عن اتخاذ الفرد أو الجماعـة موقفـا متـشدداً بإزاء فكـر أو معتقد، وهو ليس حكراً على ديانة سماوية من دون أخرى، وأنه لم يكن محصوراً في حيز تاريخي- زماني معين، وقد واجه الإمام علي (عليه السلام) فكراً إرهابياً متطرفاً تصدى له بطريقة متحضرة مبنية على أساس أن الاختلاف أمر طبيعي، ولا يصح أن يكون مدخلاً للعنف والترهيب، لكن عندما يصل الفكر المتطرف إلى التعدي على حقوق الآخرين يجب أن يكون التعامل معه بطريقة تضمن اقتلاعه واستئصاله، وقد حاول الإمام علي (عليه السلام) بنظرته الثاقبة ان يرسّخ لغة التسامح والتعايش السلمي مع الآخر من خلال جعل الأخوّة ركناً أساسياً في بناء المجتمع الإسلامي، فقال (عليه السلام) في وصيته لعامله مالك الأشتر: (… الناس صنفان أما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)، والأخوّة بطبيعة الحال لا تكون إلا حيث يكون التعدّد والتنوع، ومبدأ الأخوة إنما هو ترجمة لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10)، وبإرساء معالم الأخوة نكون قد حصّنا المجتمع بوجه تيارات التطرف والتكفير، فالاختلاف بين الناس حقيقة إنسانية يقرّها الإسلام، ومن العبث إلغاء التباين والاختلاف.
الإمام علي (عليه السلام) ولغة الحوار:
أكد الإمام (عليه السلام) على لغة الحوار بوصفها بوابة للتعايش السلمي، والتمهل في اتخاذ الأحكام، والأخذ بالنوايا الحسنة اتجاه الآخر، والابتعاد عن التعامل الشكلي، والحكم الظاهري المبني على أسس خاطئة منحرفة، فمن مظاهر التطرف سوء الظن بالآخر، ونظرة التشكيك اتجاهه، ورفض (عليه السلام) سياسة التمييز على أساس الانتماء الديني والعرقي، وأرسى قواعد المواطنة والمساواة بأبهى صورها، وسعى الإمام (عليه السلام) جاهداً إلى وضع أسس الدولة المتحررة ودعائمها، التي تقوم على احترام حقوق الإنسان، واحترام إنسانية الإنسان، الأمر الذي كلّفه حياته الشريفة، إذ عاداه الذين اعتادوا على نظام الطبقية والتمييز، وضرب (عليه السلام) أروع الأمثلة في فن الحوار والمحاورة، وتقبل الآخر واحترام الآراء المخالفة، ويمثل الحوار في مدرسة الإمام علي (عليه السلام) مرتكزا للتلاقح الفكري والثقافي، ويمثل القاعدة الأساس في بناء العلاقات الإنسانية التي تجعل من احترام الآخر والاعتراف بخصوصياته الدينية والفكرية سبباً مهماً للتعايش السلمي، وهذا ما حدث حينما مر بكنيسة فقال بعض أصحابه: (هذا مكان طالما عُصي فيه الله)، فقال سلام الله عليه: (مه قل طالما عُبد فيه الله)، فالإمام (عليه السلام) أراد أن يظهر القصد من إنشائه وهو التقرب إلى الله تعالى، بغض النظر عن طرق الوصول، وبهذه النظرة نستطيع احتواء الآخرين، ونستطيع التعايش معهم بسلام وطمأنينة، فكان (عليه السلام) أنموذجا فريداً في رفض التعامل مع الآخر على أساس الانتماء الديني، وهو ما حدث عندما مر عليه شيخ مكفوف كبير يستجدي الصدقة، فانزعج الإمام (عليه السلام)، من هذا المشهد وقال: ما هذا؟ ولم يقل من هذا؟ فالسؤال كان استفهاميا واستنكاراً للحالة، وليس للشخص فأجابه أصحابه: (يا أمير المؤمنين هذا نصراني)؛ فردهم أمير المؤمنين غاضبا بقوله: (استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه! أنفقوا عليه من بيت المال)، فالجميع سواسية في النظرة الإسلامية التي ترجمها الإمام (عليه السلام)، ومثلها أحسن تمثيل.
التكفير ورفض الآخر
واجه الإمام علي (عليه السلام) فكراً إرهابياً خطيراً يظهر التعامل على أساس الانتماء الديني والقبلي، والاتجاه السياسي، فوجه أصحابه بضرورة الانفتاح على الآخرين، وتذويب الحواجز والفواصل بين أبناء المجتمع، فكان يرفض إطلاق صفة الكفر على الآخر، حتى مع ألدّ أعدائه، ففي معركة الجمل حينما سئل عن أهل الجمل، رفض نعتهم بالشرك أو الفسوق أو المسميات الأخرى فقال: إخواننا بغوا علينا، وهو بهذا أراد أن يذوّب المسميات التكفيرية والشركية، وأراد أن يقول يجب أن لا نقابل كل من يختلف معنا بالتكفير والشرك، فكانت سمة الاعتدال والوسطية تظهر بجلاء في خطاباته وسلوكياته، وقريب من ذلك ما حدث مع الخوارج أيضا، فعندما كان الإمام علي (عليه السلام) على المنبر، جاء أحدهم قائلاً: (لا حكم إلا لله)، ثم أقام آخر فقال: مثل قوله، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكمون الله، فأشار عليهم بيده: اجلسوا نعم، لا حكم إلا لله، كلمة حق يراد بها باطل، إلا أن لكم عندي ثلاث ما كنتم معنا: لن نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا، ثم أخذ في خطبته، وكلام الإمام (عليه السلام) ترجمة حقيقية للتشريع القرآني كما في قوله تعالى: (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
الحرية الفكرية والسياسية
إنّ من السمات الواضحة السياسية في تجربة الإمام علي (عليه السلام) وقد سبق بها زمانه هي سعيه الحثيث نحو إيجاد دائرة الحرية الفكرية والسياسية وتوسيعها، وفتح السبل أمام المعترضين والمناوئين، سواء بحرية التعبير أو بالعمل وتبنّي المواقف بإزاء الأحداث السياسية، فقد كفل الإمام (عليه السلام) حق اختيار الخط السياسي لكل مواطن في أصقاع دولته، وشملت هذه الحرية حتى أعدائه، فعلى الرغم من تكفير الخوارج للإمام (عليه السلام)، وإثارة المشاحنات والأقاويل، إلا أنه رفض التكفير بتكفير مضاد، ولا الحكم بخروجهم من الدين، ووقف ليحاورهم بالحجة الدامغة والبرهان الساطع، ويجادلهم بالتي هي أحسن، ويفنّد شبهاتهم بالمنطق والدليل والسند والشاهد، من دون أن يقاتلهم أو يقمعهم أو يمنعهم حقوقهم السياسية والمدنية، لكن بعد أن تحولوا إلى قطّاع طرق، وأخلّوا بالأمن العام، كان لزاماً عليه بوصفه ولي أمر المسلمين وخليفة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يضع حداً لبغيهم وإرهابهم، حماية منه للأمن الاجتماعي، ويقيناً لولا اندفاعهم إلى ممارسة العنف والإخلال بالأمن العام لاستمروا في نشاطهم بوصفهم حركة سياسية معارضة، لهم ما لسائر المسلمين من حقوق، وعليهم ما على المسلمين من واجبات، وهكذا واجه الإمام علي (عليه السلام) الإرهاب بالاعتدال، والتطرف بالحوار والتسامح، وللتدليل على ذلك رفض الإمام (عليه السلام) قتل التكفيري ابن ملجم، أو التنكيل فيه؛ لكي لا يكون قتله انتقاماً، بل أراد تقديمه لمحاكمة عادلة ينال بها العقوبة التي يستحقها، وحرصاً من الإمام (عليه السلام) على حفظ الدماء أو اللجوء إلى العنف، فقد أرسل لهم ابن عمه عبد الله بن عباس إلى الخوارج، فحاورهم ودحض حججهم ودعاهم للرجوع عن غيهم وبغيهم وعدوانهم والعودة إلى الانخراط في الجماعة الإسلامية، لكن هؤلاء استباحوا الخوض في دماء المسلمين من دون أدنى تورع أو تحفظ، وقد نقل لنا التاريخ مشاهدة دموية مروّعة في هذا الشأن، فكان التصدي لهؤلاء ضرورة لابد منها لحفظ الأنفس والأموال، بعد أن استنفذت أساليب الحوار.
التعايش السلمي
إن التعايش السلمي في ضوء القواعد الإنسانية للإمام علي (عليه السلام) هو ضرورة بشرية؛ لأنه (عليه السلام) منبع الإنسانية، فالحياة لا يمكن أنْ تستقر، ولا يمكن أنْ تتقدم ما لم يسعَ أبناؤها إلى التسامح والتصالح، واحترام الإنسان لكونه إنساناً، وبهذا اتسم الخطاب العلوي بكونه خطاباً متكاملاً منفتحاً يهدف لبناء حياة مفعمة بالتعايش والسلام، وهو خطابٌ يؤمن بحرية العقيدة والاتجاه، فضلاً عن كونه خطاباً مؤسساً للتعايش السلمي؛ لأن المجتمع آنذاك لم يعتاد على هكذا خطاب، فلم يكن يعرف سوى لغة القوة والغلبة، والإمام (عليه السلام) في مجال التسامح والمساواة إنما يترجم مبادئ القرآن الكريم كما جاء قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) (النساء:1).
التكفيريون الجدد
التكفير آفة خطيرة، مزقت جسد الأمة منذ القدم، وما زالت تفعل الأفاعيل في عصرنا الحاضر، ومن المعلوم أن فتنة التكفير كانت أول البدع والفتن ظهوراً في الإسلام، وأصلها يعود لسببين هما: الجهل بدين الله، والغلو في التعامل مع أصول الدين وقواعده، فالمدرسة التكفيرية تنهل من مصادر منحرفة؛ لأن الإسلام دين رحمة ورأفة وعفو، وقد عرف تاريخنا الإسلامي مذاهب وحركات تكفيرية عديدة كانت تظهر بين الفينة والأخرى، في حقب ومراحل زمنية مختلفة، وفي عالم اليوم شهد الفكر المعتدل تراجعاً ملحوظاً أمام سيطرة الفكر المتطرف في المجتمعات الإسلامية، وأسهم الفكر التكفيري المتطرف في تشويه صورة الإسلام، إذ صور المتطرفون الإسلام من خلال سلوكياتهم السلبية- بأنه دين عنف، وغلظة وشدة- حتى تولد شعور لدى غير المسلمين بأنه لا يمكن التعايش مع المسلمين، وأدى هذا الفكر إلى فساد عقائد المسلمين، وأعقب ذلك أعمال تخريبية وتفجيرات إرهابية راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء والمدنيين العزل، وخرجت كل الفرق التكفيرية المعاصرة من رحم فرق الخوارج الذين ابتلي بهم أمير المؤمنين (عليه السلام) والتي لم تتورع عن تكفير عامة المسلمين، أو رميهم بالشرك، وربما هذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض كلماته، وذلك أنّه وبعد أن أنهى حركة الخوارج في النهروان، قيل له: يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم؟ قال (عليه السلام)) : كلا، إنّهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء كلما نجم منهم قرن قطع).. فسلامٌ على أمامِ المتقّين يوم وُلد، ويوم جاهد في الله حقّ جهاده، ويوم استُشهد في محراب الصلاة على يدِ أوّل مجموعة تكفيرية في تاريخ الإسلام، ويوم يُبعث حياً في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مُقتدر.
المصادر
تاريخ الطبري: ج4 ص 57، البداية والنهاية لابن كثير: ج7.
نهج البلاغة، الجزء الثاني، مراجعة صلاح الفرطوسي، مؤسسة علوم نهج البلاغة، العتبة الحسينية المقدسة، 2023.
غسان السعد، حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) – رؤية علمية، ط1، دار الرافدين، بيروت 2012م.