banarlogo

الحصار وسياسة التجويع في ظل نظام البعث

أ.د. حسين الزيادي

 

 

 في المرحلة الممتدة من آب 1990 وحتى أيار 2003 خضع الشعب العراقي لحصارين؛ الأول دولي قادته الولايات المتحدة الأمريكية عبر قرار مجلس الأمن رقم 661 المؤرخ في 1990، إذ اعتبر مجلس الأمن أنّ دولة العراق لم تمتثل لقراراته السابقة، ومن ثم أكّد عبر المادة الثالثة من القرار منع تصدير أي من السلع والمنتجات إليه، والثاني داخلي قاده نظام البعث، والحقيقة أن العراق لم يعانِ من أي حرب كما عانى من الحصار الاقتصادي، حتى ورد على لسان كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة في 12-11-2000 عندما كان مشاركاً في مؤتمر القمة الإسلامي في قطر: أني أشارككم أن ما يجري في العراق هو معضلة أخلاقية. وحقيقة أن الحصار الاقتصادي لم يحقق الهدف الذي توخته الولايات المتحدة، فلم تنال سياسة التجويع من النظام ورموزه، بل على العكس تماماً فقد تضاعفت ثروات أزلام النظام، وتمددت أملاكهم على حساب الشعب العراقي، وتفشت مظاهر الفساد المالي، وسياسة السوق السوداء التي كانت تدار من قبل أركان النظام والمقربين من السلطة.

 

مؤشرات اقتصادية 

  أصبح العراق عام 2000 أفقر من بنغلادش، فكان معدل الدخل الفردي العراقي السنوي أقل من 300 دولار سنويا عام 1999، وهاجرت عشرات الآلاف من الكفاءات العراقية، وأشار تقرير لمنظمة الصحة العالمية عام 1996 إلى أن الغالبية الساحقة من الشعب العراقي تعيش على نصف غذاء، وقد وصلت إلى المجاعة، وأكد تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة الدولية أن العراقيين يعيشون على 34% من النسبة المقبولة من الوحدات الحرارية لبقاء الإنسان.

وخلال عام واحد من حرب تحرير الكويت طرقت المجاعة أبواب العراقيين إلى درجات لم يعهدوها سابقاً، ولا حتى في أيام الحكم العثماني، فاكتفت العوائل العراقية بنصف كميات الطعام، وعاني ملايين الأطفال من سوء التغذية، وانتشرت الأمراض بسبب انهيار البنى التحتية، وفي نيسان 1995 أصدر مجلس الأمن القرار 986 الذي أوجد صيغة دائمة لبرنامج النفط مقابل الغذاء، يخول العراق بموجبها تصدير كميات من النفط تقدر بقيمة ملياري دولار كل ستة أشهر؛ لشراء سلع إنسانية من أغذية وأدوية تحت إشراف لجنة دولية من الأمم المتحدة، وبطبيعة الحال لم تستلم الحكومة العراقية أية أموال، بل تم إيداع عائدات النفط في حساب مصرفي في بنك باريس في نيويورك، وبعد تردد دام عام كامل وافقت حكومة العراق، وسمح مجلس الأمن بزيادة المبلغ كل سنة ابتداءً من عام 1998 حتى وصل إلى حدود 10 مليارات دولار في السنة، وعمدت اللجنة المشرفة على توزيع المبلغ كالآتي : 53% لشراء الغذاء والدواء والحاجات الإنسانية، و30% تعويضات عن حرب الخليج؛ وخصوصاً للكويت، و10% لتغطية نفقات الأمم المتحدة في العراق من لجان التفتيش إلى لجنة الحظر إلى الهيئات الأخرى و13% للإمدادات الإنسانية من غذاء ودواء للمحافظات الثلاث في شمال العراق، وبموجب هذا التوزيع حصل 22 مليون عراقي في 15 محافظة يشكلون 87% على 50% من المبلغ الإجمالي، في حين حصل ثلاث ملايين عراقي في الشمال على 13%.

 

نتائج اجتماعية

وخلال تلك المرحلة عم الفساد، وبدأت الطبقة الوسطى ببيع ممتلكاتها على الأرصفة لسد رمق أبنائها، وتفشت ظواهر اجتماعية دخيلة على المجتمع العراقي، فوصلت معدلات سرقة السيارات من الطرق الخارجية إلى 40 ألف حالة في العام، وتفشت ظاهرة التسول، وعمالة الأطفال، وبدأ النظام يتخبط في حالة من الهيجان؛ فلجأ إلى ابتكار عقوبات على التجار كالإعدام وتعليق الجثث على أعمدة الكهرباء.

وفي ظل انخفاض إيرادات الدولة، وتضاؤل قيمة الرواتب إلى الحد الأدنى، ترك أكثر من 12 ألف مدرس وظائفهم، وحصلت موجة نزوح جماعي للمهنيين، وباعت الأسر الأثاث والأجهزة الكهربائية والملابس، وحتى قطع منازلها كالنوافذ والأبواب والكتل الإسمنتية، والحقيقة لم يقتصر أثر الحصار على الجانب الاقتصادي، فقد ضرب الحصار المنظومة المجتمعية بكل قوة؛ فنمت ظواهر دخيلة لم يعهدها المجتمع العراقي من قبل، فانتشرت السرقات، ومظاهر العنف، والجرائم المنظمة، والمتاجرة بالممنوعات، وغيرها من الظواهر الاجتماعية.

 

مؤشرات صحية

وللإشارة إلى التدهور السريع في الوضع الصحي لأطفال العراق؛ فقد كانت نسبة وفيات الأطفال الرضع 37 بالألف عام 1989 تضاعفت إلى 120 بالألف عام 1991، بزيادة قدرها ثلاثة أضعاف تقريباً، وأن أرقام اليونيسيف أكدت هذا الاتجاه؛ إذ ارتفعت معدلات وفيات الأطفال 37 بالألف بنسبة 25 بالألف عام 1998، وذكر تقرير لمنظمة الصحة العالمية عام 1991 أن النظام الصحي في العراق قد أصبح بدائياً، وفي غاية التخلف، ومن دون أدوية ومعدات، وعدد كاف من الأطباء، وأفاد تقرير لمنظمة اليونيسيف أن مائة ألف طفل عراقي ماتوا عام 1993؛ بسبب انعدام الغذاء والدواء وأن 500 مؤسسة تعليمية تعرضت للدمار والخراب والنهب،  وتراجع معدل الأعمار (العمر المتوقع عند الولادة) في العراق إلى عشرين عاماً للرجال، و11 عاماً للنساء، وتضاعفت أمراض السكري إلى الضعف عام 1993، ثم انفجرت هذه الأمراض خمسة أضعاف لدى العراقيين فوق الخمسين عاماً في سنة 2000؛ نتيجة سوء التغذية وما يحمله الحصار من إرهاصات حياتية، وقلق يومي.

وعلى إثر المجاعة التي تعرض لها الشعب العراقي استقالت ممثلة برنامج الغذاء العالمي في بغداد – الألمانية بوتابور غهارت – بعد ساعات على قبول تنحي منسق النشاطات الإنسانية في العراق هانز فون سبونيك في 16-2-2000، وقد أجهز الحصار على اقتصاد العراق المستنزف أصلاً بسوء التخطيط، وسوء الإدارة، والحروب المتتالية.

 

سياسات عبثية وإعدامات

وفي عام 1992 أعدم النظام أكثر من خمسين تاجراً، وهدد بإعدام المزيد من التجار الذين يخفون السلع، ويتعاملون في السوق السوداء بحسب ادعاء السلطات، ووجهت حكومة البعث تحذيراً شديداً للمزارعين؛ فأمرتهم فيه بتسليم كامل حاصلاتهم الزراعية للحكومة، وأن من يخالف هذا الأمر سيعاقب ببتر يده، ومن المعروف أن السواد الأعظم من سكان القرى الذين يمثلون غالبية سكان العراق تقوم حياتهم على الزراعة، ومن ثم فإن حصيلة انتاجهم من الحبوب تمثل المصدر الرئيس للغذاء والدخل، فإذا حرموا من مصدر معيشتهم الأساس فإنهم بلاشك يتعرضون لمعاناة قاسية، وهذا الأمر دفع بعض العراقيين في بعض المناطق إلى الامتناع عن تسليم محاصيلهم الزراعية، ومقاومة قوات النظام التي تجبي منهم هذه المحاصيل بالقوة وتحت تهديد السلاح، ولقد شهد عقد التسعينيات أيضا مذابح عدة ارتكبت في حق الصيارفة الذين أعدم قسم منهم بتهمة المتاجرة في العملة، وكان النظام قد أصدر قانوناً في الشهر السادس من عام 1994، يتم بمقتضاه قطع يد كل من تثبت عليه تهمة الاتجار في العملة، وقد وصلت نسبة التضخم أعلى مستوياتها، وقفزت الأسعار بشكل جنوني، وشهدت أسواق بغداد والمحافظات حشوداً من المواطنين يعرضون ملابسهم وأثاثهم وأجهزتهم المنزلية للبيع؛ لمواجهة أعباء الحياة؛ إذ تراوحت مرتبات العراقيين بين 300-600 دينار شهرياً، بمعنى آخر أقل من 100 دولار.

والحقيقة أن من يقع عليه اللوم هو من كان مسبباً في فرض الحصار؛ بسبب سياسته، وحروبه العبثية، ولا يعقل أن يتحمل الشعب تبعات السياسة الإجرامية للسلطة، أما ارتفاع الأسعار فهو أمر طبيعي في ضوء التضخم الاقتصادي الناجم عن طبع العملة، ومن ثم انخفاض حجم العرض قياساً بالطلب.

 

إبادة جماعية

 لم يكتف نظام البعث بذلك، بل اتخذ من سياسة التجويع سلاحاً لضرب معارضيه، فقطع البطاقة التموينية عن عوائل المعارضين لسياسته. إن سياسة التجويع ترقى لتكون جريمة إبادة جماعية؛ لأنها أسهمت في إلحاق الأذى بحق الآخرين من أفراد وجماعات، فضلاً عن تحقق ركنها المادي والمعنوي، والركن الدولي، وهذه السياسة تعد انتهاكاً لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص في المواد من (22-27) على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كالحق في الضمان الاجتماعي، والحق في العمل، والحق في مستوى معيشة لضمان الصحة والرفاهية، والحق في التعليم.

 ووفقا لما ورد في نص البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977 وفي م 14 منه التي تتعلق بحظر التجويع كأسلوب من أساليب القتال، وحُظر تبعا لذلك مهاجمة، أو نقل، أو تدمير، أو تعطيل المواد التي لا غنى عنها من أجل بقاء المدنيين على قيد الحياة، ومثالها المواد الغذائية، والمناطق الزراعية، والمحاصيل الزراعية.

 

عدي صدام وشبكات الاقتصاد الأسود

الاقتصاد الأسود هو كل نشاط تجاري يتم خارج نطاق القوانين واللوائح، ويتهرب من السلطة الضريبية، ويُعرف بأسماء عديدة أخرى، كاقتصاد الظل، أو الاقتصاد غير الرسمي، أو الاقتصاد السري، وقد ظهر هذا النوع من الاقتصاد في تسعينيات القرن الماضي، وخلال مدة الحصار الاقتصادي على يد عدي صدام حسين، وهو الرجل الذي عرف بعدوانيته وطيشه وساديته، ومن أبرز الأنشطة التي سيطر عليها:

  1. احتكار تجارة بعض السلع والبضائع، ومنها السكائر، فقد لعب عدي دوراً أساسياً في إدارة شبكات السوق السوداء؛ إذ كانت السلع المحظورة، أو النادرة تُباع أسعار مرتفعة عبر قنوات غير رسمية يسيطر عليها بعض التجار الذين يمثلون واجهات لشخص عدي.
  2. استطاع عدي أن يفرض احتكاره لتجارة بعض السلع، مثل: الكحول والتبغ، مما جعله المصدر الوحيد لهذه السلع التي كانت شحيحة بسبب الحصار.

3- استغل علاقاته بمهربي البضائع عبر كوردستان والأردن وسوريا وتركيا؛ لإدخال البضائع والمواد الغذائية، وبيعها بأسعار مضاعفة.

  1. كان جريمة غسيل الأموال من الجرائم التي تفشت بسبب ممارسات عدي، وتهدف هذه الجريمة إلى إضفاء شرعية قانونية على أموال محرمة، وفضلاً عن ذلك فقد تاجر عدي في السيارات الحديثة، مستورداً أحدث الطرازات من أوروبا عبر واجهات معينة.

وقد تجاوزت تصرفات عدي المتاجرة في السوق السوداء؛ فقد نقلت صحيفة صنداي تليغراف البريطانية أن النظام يبيع الأدوية التي ترسلها الأمم المتحدة في السوق السوداء في إطار برنامج الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية خارج العراق، وقالت الصحيفة: إن شركة غلاسكو ريلكوم قدمت شكوى رسمية إلى وزارة الخارجية البريطانية، ولجنة الأمم المتحدة؛ لأنها عثرت على 15 ألف علبة من دواء الفنتولين في إحدى الدول العربية، وكانت الأدوية قد شحنت سابقا من قبل الشركة إلى العراق في إطار النفط مقابل الغذاء.

 المصادر

  1. كمال ديب، موجز تاريخ العراق، دار الفارابي، بيروت، 2013
  2. سارة سلام جاسم، جريمة تجويع السكان المدنيين في القانون الدولي الإنساني، المجلد 22، العدد الثاني، 2020
  3. غنية سطوطح، العقوبات الاقتصاديّة الدوليّة في نظام الأمم المتحدة، مجلة دائرة البحوث القانونيّة والسياسيّة – مخبر المؤسسات الدستوريّة والنظم السياسيّة، العدد الرابع، 2018.