بقلم : د. عباس القريشي
شهد العراق إبان هيمنة حزب البعث على السلطة في العراق (1968-2003) تجارب عديدة وفريدة في عسكرة المجتمع عبر تشكيلات مختلفة ومتنوعة كالحرس القومي، وجهاز حنين والجيش الشعبي، الذي لم يكن مجرد قوة مساندة للجيش النظامي، بل كان أداة سياسية واجتماعية تهدف إلى تعزيز هيمنة الحزب الواحد على جميع مفاصل الدولة والمجتمع. وعبر تشكيل” الجيش الشعبي” استطاع ان يؤدي دورا أساسيًا في تجنيد شرائح واسعة من المواطنين الذين اتموا تكليفهم في الخدمة العسكرية الالزامية ، ما أدى إلى تحولات جوهرية في البنية الاجتماعية، إذ كان هناك أعداد كبيرة غير راغبة في الانضمام للجيش الشعبي، وفرض التجنيد الإجباري الذي رافقته مخالفات قانونية دولية أثرت بشكل مباشر على حقوق الإنسان والاستقرار الاجتماعي، سنبينها في هذا المقال
– الجيش الشعبي
هو تشكيل عسكري شبه نظامي أنشأه حزب البعث في العراق، ليكون ذراعًا أمنية وعسكرية تابعة للحزب مباشرة، منفصلة عن الجيش العراقي النظامي يهدف من إنشائه إشراك المواطنين في الدفاع عن النظام البعثي، وإيجاد قوة موالية للحزب تستطيع التصدي لأي تهديدات داخلية أو خارجية، بالإضافة إلى إشغال المواطنين وعسكرة المجتمع، وتشكل الجيش الشعبي من المتطوعين قلائل وأفراد، ومن تم تجنيدهم قسرًا هم الأكثرية، إذ خضعوا لتدريبات عسكرية ، وتم توظيفهم في مختلف الأنشطة الأمنية والعسكرية ، خاصة خلال الحروب والاعتداء على العراقيين بالشمال والجنوب من القرن العشرين.
– تأسيس الجيش الشعبي
تأسس رسميًا في عام 1970، في أعقاب استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1968، ليكون أحد الوسائل لتعزيز السيطرة المطلقة للحزب على مؤسسات الدولة، ومع تصاعد التوترات الإقليمية، وخاصة بعد اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، توسع الجيش الشعبي ليشمل فئات المجتمع جميعاً، إذ أصبح الانضمام إليه شبه إلزامي، من الموظفين وغير هم ، وبلغ تعداد أفراده ما يقارب 650 ألف مقاتل، وكان لهم أثر بارز في جبهات القتال، مما جعل العراق من أكثر الدول عسكرةً في تلك المدة.
– المخالفات القانونية الدولية في التجنيد الإجباري
كان التجنيد الإجباري في الجيش الشعبي أحد الانتهاكات الصريحة للقانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف التي تحظر الإجبار القسري للأفراد على الخدمة العسكرية خارج الأطر القانونية المشروعة. ومن أبرز المخالفات التي ارتكبها النظام العراقي في هذا الصدد:
- التجنيد القسري لطلبة الجامعات: كان على جميع الطلاب الالتحاق بالجيش الشعبي خلال العطلة الصيفية، وهو ما حرمهم من حقهم في الدراسة الحرة دون تدخل سياسي.
- إجبار العمال والموظفين: كان الانضمام إلى الجيش الشعبي شرطًا أساسيًا للترقيات الوظيفية أو حتى للاحتفاظ بوظائف معينة في مؤسسات الدولة.
- توريط المدنيين في النزاعات المسلحة: تم إرسال العديد من مجندي الجيش الشعبي إلى الخطوط الأمامية في الحروب، رغم عدم امتلاكهم التدريب الكافي، مما أدى إلى وقوع خسائر بشرية فادحة في صفوف المدنيين المجندين قسرًا.
– الآثار الاجتماعية المترتبة على التجنيد الإجباري
أدى التجنيد القسري في الجيش الشعبي إلى تأثيرات اجتماعية عميقة في المجتمع العراقي، بعضها امتد لعقود بعد انتهاء حكم البعث، ومنها:
- ترسيخ ثقافة العنف والعسكرة: أسهم انتشار الجيش الشعبي في نشر ثقافة القوة والهيمنة العسكرية، إذ أصبح حمل السلاح والتدريب العسكري جزءًا من حياة الأفراد اليومية.
- تفكك البنية الأسرية: بسبب إرسال الآلاف من الشباب إلى جبهات القتال، عانت العديد من العائلات من فقدان معيليها، مما أدى إلى أزمات اقتصادية واجتماعية طويلة الأمد.
- تأثيرات نفسية طويلة المدى: تعرض العديد من المجندين القسريين لصدمات نفسية نتيجة مشاركتهم في الحروب والنزاعات، وهو ما ظهر سلبياً على استقرارهم النفسي والاجتماعي لاحقًا.
- استمرار ثقافة الولاء الحزبي: بعد سقوط النظام، وجد كثير من أعضاء الجيش الشعبي أنفسهم بلا هوية أو انتماء سياسي، مما دفع البعض منهم إلى الانخراط في العصابات التكفيرية والجماعات الإرهابية بعد عام 2003، مستغلين خبراتهم العسكرية السابقة.
وخاتمة القول، يمكننا القول إن الجيش الشعبي كان أداة رئيسة في عسكرة المجتمع العراقي، إذ أدى التجنيد الإجباري إلى تغييرات جذرية في بنية المجتمع، مكرسًا حالة من الهيمنة الحزبية المطلقة وقمع الحريات الفردية. وعلى الرغم من تفكيك الجيش الشعبي بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، إلا أن آثاره لا تزال قائمة في العراق.