أ.د. حسين الزيادي
المخبر السري: هو شخص يعمل مع الدوائر الأمنية، يرتدي الملابس المدنية، ويعيش مع الناس، ويبلغ دوائر الأمن بأخبار الناس وتوجهاتهم وحركاتهم ،وما يتداولونه من أحاديث تمس السياسة والأمن، ويُمكن النظر إليه على أنّه جاسوس مأجور أو مُتطوع، وهذا الشخص يتحول إلى واشٍ متى ما نقل أخبار كاذبة بدوافع شخصية كالانتقام والكره والبغضاء والتحاسد والخلافات الشخصية، وهو بهذا يمتلك القدرة على إيذاء الآخرين؛ لأنه في موقع يستطيع معه نقل أخبار ملفقة، وكانت الأجهزة القمعية في ظل نظام البعث تعتمد على هؤلاء بوصفهم أهم المصادر لاستحصال المعلومات. والمخبرون في الأجهزة القمعية لنظام البعث يعملون ضمن إطار قانوني، ويتمتعون بحماية قانونية، ويرتبطون مباشرة بالمحكمة الخاصة لجهاز الأمن، وكانوا مطالبين بتقديم المعلومات بشكل دوري؛ لذا كانت أغلب معلوماتهم تقوم على أساس الشك والظن والريبة، فضلاً عما يقدمه بعضهم من معلومات كاذبة بناءً على بواعث فردية؛ لذا كان المجتمع ينظر بعين الشك والريبة والتحري للغرباء، ولكافة المحيطين به مهما كانت أعمالهم وحرفهم الظاهرية.
إن المخبر إذا ما أبلغ دوائر الأمن بمعلومات كاذبة فإن الضررَ الذي يلحق من وراء ذلك قد يكون مدمراً على الشخص وعلى عائلته، وأغلب الذين تعرضوا للتغييب القسري كانوا ضحايا للمخبرين، أو وكلاء الأمن بحسب التوصيفات الدارجة آنذاك.
استطاع نظام البعث أن يزرع الخوف في نفوس العراقيين إلى الحد الذي جعل المواطن يعتقد أن المخبرين والوشاة ووكلاء الأجهزة الأمنية موجودون في كل مكان، ولا يخلو منهم مكان، وقد تعزز ذلك الاعتقاد من خلال الحوادث التي أُعدم بها كثير من الأبرياء لكلمة، أو نكتة أطلقوها أمام متسول أو متشرد تبين فيما بعد أنه مُخبر أو وكيل في جهاز الأمن، وكانت سلطة البعث تجند الوشاة بالتهديد تارة، والابتزاز تارة أخرى، فعندما يتم القبض على أحدهم تتم مقايضته بالحرية مقابل العمل معهم، وقد استغل النظام البعثي بعض السجناء ممن تعرضوا لمختلف أنواع التعذيب ليتم تجنيد البعض منهم ممن خارت قواتهم، وضعفت قدراتهم على الصمود مقابل إطلاق سراحهم، وأطلق على هؤلاء مصطلحات مشجعة – المؤتمنين والمتعاونين-؛ لأن المجتمع يحتقر هذه المهنة المنبوذة اجتماعياً، فالأفراد الذين يمتهنونها في العادة هم أفرادا يعانون من نقص ومثلبة تمس وضعهم العائلي او الشخصي، أو أنهم يعانون من فشل ما وشعور بالنقص، وعموماً يمكن عدّ هذه الشريحة أداة من أدوات رعب الدولة، أذ نجح هذا الجهاز القمعي في تنميط الصورة الذهنية عن جهاز الأمن في العراق بوصفه جهازاً مرعباً، فكلما لامست كلمة (الأمن) أو (وكيل الأمن) أسماع المواطن العراقي أصابه الهلع، وارتعدت فرائصه، وارتسمت في ذهنه صور التعذيب والتغييب القسري والموت والأقبية المنسية، ومشاهد السلخ والتيزاب، وتذويب الأجساد، والاعتداءات الجنسية التي تلغي إنسانية الإنسان.
لقد كان جهاز الأمن البعثي من اعتى الأجهزة القمعية، وهو جهاز انتقامي سخر لأجله النظام كل إمكانات الدولة ومقدراتها، فالجهاز برمته كان يعمل على حماية رأس النظام ومقربيه، ونجح في تدمير البنى القيمية والثقافية والاجتماعية من خلال اختراقها وتحويل البعض إلى مخبرين ووشاة من خلال سياسة الابتزاز والتخويف، وجهاز الأمن البعثي لا علاقة له بحماية المواطن وسلامته، فكان ينظر إلى المواطن بوصفه خصما تتم مراقبته، ومتابعته، وجمع المعلومات الصغيرة والكبيرة عنه، ولم يكن هذا الجهاز معنياً بالجانب القضائي، فهناك المحكمة الخاصة بجهاز الأمن، بمعنى أن الذين يلقى عليهم القبض لا يحالون إلى أجهزة القضاء العراقي؛ ليقول كلمته، بل يتم تدوين الإفادة تحت وطأة التعذيب؛ ليكون الحكم جاهزاً حتى أن البعض ممن تمت الوشاية بهم وتعرضوا للتعذيب كانوا يدلون بإفادات بحسب ما يُطلب منهم تخلصاً من التعذيب.
قد جندت حكومة البعث الآلاف من مختلف المحافظات للعمل على تزويد الأجهزة القمعية بالمعلومات، وما يدور من أحداث، وكانت تلك الأجهزة حريصة على تجنيد العاملين في المهن الهامشية الأكثر التصاقاً بالمجتمع كالكتبة أو أصحاب المقاهي والمكتبات، وقد أوغل هؤلاء بالدمِ العراقي بصورة بشعة تفوق الخيال، فبعد إجهاض الانتفاضة الشعبانية المباركة تم العثور على تقرير من إحدى المخبرات ممن تنتسب إلى ما يسمى الاتحاد العام لنساء العراق تذكر فيه أسماء (34) شخصاً من الذين اشتركوا في الانتفاضة، وقد ذكرت أسماءهم الرباعية؛ إذ قامت أجهزة الأمن باعتقال هؤلاء بمنتهى السهولة، وتم إعدام أغلبهم فيما بعد أن اودعوا في السجون، وهناك عشرات الملفات التي تم العثور عليها لاسيما في مركز وثائق شمال العراق، أو وثائق الأمن العامة، ووثائق القيادة القطرية لحزب البعث، تظهر أن هؤلاء المخبرين كانوا ينتمون إلى طبقات اجتماعية متنوعة وخلفيات تعليمية مختلفة، والبعض منهم ارتضى بهذه المهمة مقابل الحصول على موافقات أمنية لفتح مشروع تجاري، أو مكتبة، أو مكتب للعقار أو الاستنساخ وما شاكل ذلك، أما البعض الآخر فقد استسلم للعمل تحت وطأة التعذيب أو بعد التهديد بالاعتقال أو التلويح بنقل ملفه إلى جهات عليا، وبعض هؤلاء لم يكونوا مجبرين على العمل؛ لكنهم تطوعوا للعمل بوصفهم وشاة كنوع من الانتقام والضغينة ضد الجيران والأقارب.
وقبل أن يسجل هؤلاء في سجل المخبرين يتم توقيعهم على تعهد كتابي يتعهدون فيه بعدم إفشاء أسرار المهنة، وأن يقوموا بنقل المعلومات بدقة متناهية حتى عن أقرب الناس، وقد حاول النظام تنظيم عمل هذه الشريحة في قانون، وصدرت تعليمات تنظم واجباتهم وحقوقهم، ففي عام 1970 صدر قانون 83 لتنظيم عمل وكلاء الأمن، والذين تم وصفهم بـ (الجديرون بالثقة للدفاع عن منجزات الثورة) ، وعلى ضوء هذا القانون تم تجنيد كثير من الناس للعمل وكلاء لجهاز الأمن، وكانت أعدادهم هائلة تصل إلى عشرات الألوف، وفي عام 1979 صدر قانون ينظم عمل المخبرين، وبموجب هذا القانون عرف هؤلاء أنهم مؤتمنون في الدفاع عن الثورة، وأنهم مواطنون يعملون بأجر أو بدون أجر لصالح الوكالات الأمنية ، وحدد القانون المزايا التي يحصل عليها المخبر، من ضمنها حقوق التقاعد المالية والتعويض عن الموت، أو إصابته بأي عاهة أثناء قيامه بواجبه، وكان هؤلاء يكافئون بمبالغ مادية بحسب نوع المعلومة المُبلغ عنها، وتحدد الأموال من قبل رئيس المؤسسة الأمنية (1)، وفي عام 1990 انفصلت مديرية الأمن العامة من وزارة الداخلية، وارتبطت برئيس الجمهورية حتى سقوط النظام عام 2003 ، وبعد 2003 تشكلت وكالة المعلومات والتحقيقات بدلاً عن مديرية الأمن العام وارتبطت بوزارة الداخلية.
من الناحية القانونية أن تجنيد المخبرين قسراً يعد إرهاب دولة يتعارض مع المادة الثامنة من مبادئ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي نصت على عدم جواز استرقاق أحد، وحظر الرق، ولا يجوز إخضاع أحد للعبودية، ولا يجوز إكراه أحد على السخرة أو العمل الإلزامي، أما المادة السابعة عشر من العهد نفسه فقد نصت على أنه لا يحوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، لتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته، ومن حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل أو المساس.
تأثر العمل الأمني خلال حقبة البعث بأجهزة المدرسة النازية، وهي أجهزة تعودت على الوحشية المفرطة والتلذذ بالتعذيب ، وكانت من نتائج أساليبها أنها أخفقت في الحفاظ على بلدانها وأنظمتها، فالتجربة القمعية لنظام البعث فيما يتعلق بمؤسساته الأمنية تقترب من التجربة النازية في المانيا، إذ مُنحت الشرطة السرية (جيستابو) سيئة الصيت، صلاحيات واسعة حتى غدت دولة داخل دولة الحزب النازي، وبات كل الألمان تحت رحمة قراراتها الجائرة ، وهم قوة الشرطة السياسية السرية، وكان الجيستابو أداة قمعية في يد النظام النازي، وكما هو الحال بالنسبة للأجهزة القمعية في نظام البعث فقد أعطى قانون الجستابو الأساسي الذي أصدرته الحكومة في عام 1936 قانون الجستابو
وبعد التغيير عام 2003 اختفى المخبرون أو وكلاء الأجهزة الأمنية من الساحة، وانتقل قسم منهم إلى مناطق أخرى؛ خشية الانتقام منهم؛ لأنهم أسهموا في تغييب آلاف العراقيين، وهاجر البعض منهم إلى خارج العراق، وقد توالت شهادات المواطنين التي تؤكد رؤيتهم لبعض الأشخاص الذين كانوا يدعون التسول أو الجنون أو التشرد، وقد انتقلوا إلى مناطق ومحافظات أخرى، وكانوا في وضع يختلف عما كانوا عليه من حيث التصرفات وطريقة العيش والزي.
- كمال محمود الصاف الإطار القانوني لحماية المبلغين والشهود في قضايا الفساد، رسالة ماجستير، جامعة الشرق الاوسط ،2015
- بشير الوندي، لمحة من تاريخ الاستخبارات العراقية، مباحث في الاستخبارات
- عادل عبد العالي خراشي، المخبر الخاص ومدى مشروعية الاستعانة به في كشف الجريمة، القاهرة.
- محمد العروصي، الوضعية القانونية للمبلغين عن الجريمة، 2023
(1) الوقائع العراقية ، العدد 2720 في التاسع من يوليو 1979 ، ص 785 -788
#نضامالبعث #المخبرالسري #المركزالعراقي #حسينالزيادي #الوشاة #البعثي #العميل